العبقرية والموسيقى والسودان المفقود .. ود اللمين ياخ
لا ضير لو كان يطلق عليه (الباشكاتب) فهو يكتب بصوته سيرة تنضح بخاراً رطباً في القلب، في صوته وصيته مجمل قرابة ما لأسطورة الغناء العالمي ستيفي وندر، ذاك المغني الضرير والملحن وكاتب الأغاني والمنتج الموسيقي الذي ولد في ميشيغان عام 1950، وكذلك ود الأمين، صوته يقتحم بوابات الجسد والروح يشيع دفقاً من الطرب والنشوى، ويجذب العابرين نحوه لما يربو على مسافة (الخمسة سنين).
متى ما سرت في الأثير ألحان ود الأمين تبادر من وهلة المغني العربي زرياب الذي جعل للعود خمسة أوتار، وعمم طريقة الغناء على أصول النوبة، وقضى عمره مهاجرا ومجددا في كل ما عمل به من غناء أو عزف أو ما تعلق بذلك كله, فهو إذا عدّ عظماء هذا الفن كان على رأسهم وإذا تكلم الناس عن الطرب الأصيل والفن الجليل التفتوا إليه وأعطوه من انتباههم ما يستحقه كل رجلا عظيما، وكذا محمد الأمين صوته يشف سامقاً ليدنو من رحابة الوتر السادس والسابع، فهو الموسيقار والمطرب الذي لم يرتدِ منذ نصف قرن سوى صوته وعوده الساحر، وكلّما صمت ترك جمهوره للبرد,كأنّه يغنّي ليمنحهم الدفء المفقود ويجزل عليهم بزاد الشجون، على ايقاعه ترقص الخرطوم ليلاً، والجزيرة من قبل والسودان كله، يمضي إلى دروبه في الصباح وصوت الرجل عالق في عروق الذاكرة.
في ٢٠ فبراير كانت أيادي الأزهري ومحمد أحمد المحجوب تتأهبان لكتابة مرافعة الاستقلال، وكانت الخرطوم تمور بالمشاعر الثائرة، وكان السودان مجمله يتحفز لبلوغ مرحلة جديدة من التاريخ، السودنة وضجيج أغاني الحقيبة، الرجال العظام والنساء المشلخات والأرض البكر ودق الشلوفة.. في ذلك الوقت بالتحديد كانت ثمة امرأة هنالك في أحياء مدينة ود مني تتوجع بعيد أن باغتها الطلق، تلك السيدة السمراء لم تنجب طفل من لحم فقط ولكنها أنجبت نوتة موسيقية لا تقدر بثمن. أطل للوجود محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق فى 20 فبراير 1945م، ومنذ صغره وهو بعد يرقة حلم لم يتجاوز الرابعة من العمر كان يدندن بصوته المائز وينثر الألحان العذبة، ويرتل القرأن بصوت جميل، ومما يروى عنه أنه كان عندما يطلب شيئاً وهو فى هذه السن الطفولية، كان يطلبه بشكل لحن ومنذ نشأته كان متعلقاً بالفن والموسيقي وفي تحركات طفولته ما بين أهله ودار أبيه وأعمامه في ود مدني تارة وفي (ود النعيم) إحدى ضواحي ود مدني حيث تمتد جذوره، حتى في صباه الباكر كان نموذجا مصغرا للمستقبل، يحرك أصابعه بدربة ويهوى العزف على آلة (المزمار)، وفي نهاية الخمسينات من القرن الماضى تعلق محمد الأمين بآلة العود، وبدا يتعلم العزف فيها بمعاونة أستاذه السر محمد فضل الذي درس، فى المرحلة الابتدائية بمدرسة الشرقية الأولية، في ذلك الوقت كانت حصة الموسيقى ضرب من العلوم المتاحة.
في كل مرة تكرم الدولة الموسيقار محمد الأمين يشعر الناس بأن الرجل أكبر من التكريم، هو بمثابة وطن شامخ لوحده لا حدود لأنهاره، أدرك الساسة قيمته بالغناء والشعر، في الخاطر صدى صوت بطل الحرب العالمية الثانية « ستالين » وهو يحث من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون يطرقون أبواب موسكو، صائحاً: « دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي ».. وعلى مقربة من ذلك ثمة من يصيح إنه وطن وردي ومحمد الأمين ولذا فهو جدير بالدفاع والتبجيل، كل مرة تتجدد سيرة (مراكب الشوق) و(بتتعلم من الأيام). فثمة باشكاتب يصدح بـ(عويناتك) و (وعد النوّار) و (الحب و الظروف) ويتأبط (جريدة) ليقرأ من سطورها (كلام للحلوى) ولذا شمله تكريم حفل ليلة الاستقلال بالقصر الجمهوري عقب (58) عاماً على صوته العالي وخروج المستمعر، تشيء أعماله بطلاقة الخيال، كونها متجاوزة لضيق أفق الملحنيين وتداوي من صيدلية الفن جراح البلاد والناس معاً، كرموه حتى بالدكتوراة ربما لأن النابهون من الساسة يقدمون العناصر الثقافية والفنية على بقية المخرجات باعتبارها مسألة محسومة ضمن ديالكتيك الوعي والوجود.
(صاحب الملحمة) و(يا لهب الشعب الجبار) يكره الغناء الهابط وقد أرثى مدرسة في الفن المحترم شاهدة على عظم الموسيقى وتخير الأشعار.
قبل برهة من الزمن أصابت الباشكات غضبة على ما يسمى بالغناء الهابط فشنّ هجوماً حاداً على بعض الفنانين الشباب المنفلتين وحمَّلهم مسؤولية انتشار الأغاني الهابطة وحملهم مسئولية تدني الذوق السوداني.. وقال الرجل بصريح العبارة وفي مرافعة عن جيله من المغنيين الكبار «اذا كان هنالك من تسبب في تدني الذوق فليس نحن، لأننا بشهادة الجميع إرتقينا به ورفعناه في هذا البلد » ،، لا مغالطة فالعبقرية تسري في دمه ولحنه، فهو طالما ألف بين (قلبين ضماهم غرام) وعود جمهوره على حالة (اشتياق) دائم له لأنهم على يقين بأنه (سوف يأتي) في (الموعد) المحدد، غالباً في مسرح (نادي الضباط) بمقدمة موسيقية تشئ بأنه هو نفسه الباشكاتب الذي لا يضاهى بالمرة، فيقوم الليل مقام المصغي، وكذا الأنجم والعصافير .
هو إنسان نادر، يحمل مشعل الحب، وتحيط به فرقة موسيقية في غاية التناسق، تتماهى مع ألحانه وتدرك كنه عظمته، وما يريد أن يقوم به، حتى أنه يمكن أن يصنع لازمة أو لحن في حفل صاخب، فالخواطر والجمل الموسيقية تهبط على الرجل وعلى الفرقة في وقت واحد، الفرقة الموسيقية للأستاذ محمد الأمين هي من اكثر الفرق الموسيقية التي عرفت بتجويد الأعمال الموسيقية.
رويات كثيرة يتداوله النقاد حول بدايات محمد الأمين وظهوره اللافت، ولكن أقربها للحقيقة أن الرجل ذو الحنجرة الجيتارية غادر مدني عام 1962م بإتجاه الخرطوم مشاركاً ضمن فرقة مديرية النيل الأزرق بود مدني في مسابقات فنون المديريات التسع المعروفة آنذاك، المناسبة افتتاح المسرح القومي بأم درمان، وبعد الانتهاء من المهرجان قرر محمد الأمين الاستقرار بالخرطوم وظل يمارس نشاطه مع فرقة الإذاعة، فظهرت أغنية ( وحياة ابتسامتك) للشاعر فضل الله محمد التي استخدم فيها آلة العود (صولو) في إحدى الكوبليهات، فانتبه الناس الى موهبة وبراعة عزفية يتسم بها الفنان، بالإضافة الى موهبته فى التلحين والأداء، ، لم يمكث محمد الأمين طويلاً بالخرطوم، فقرر الرجوع الى مدينة ود مدنى، هذه العودة كانت بمثابة التزود وقياس التجربة، والعودة من جديد بشكل أقوى، فمدني بلد الكاشف ورمضان حسن هى الأرض الملهمة، التي لم تغادر ذاكرة الباشكاتب فمنحه الخلود عبر أغنية طبعت سمت المدينة (مالو أعياه النضال بدني ، روحي مشتهية ود مدني) ، فمنذ بروز الموسيقار من خلال برنامج (مع الأقاليم) للإعلامي الراحل حسن محمد علي تعاهد أن يكون من حملة لواء التحديث والتجديد في الفكر الموسيقي بالسودان، فتبدت جديته وحرصه من خلال سعيه لتأسيس لون أدائي ولحني متفرد ومتجاوز، مع سعي مماثل في تلك الفترة لتقديم الجديد على مستوى الأشعار أيضاً بتقديم اغنية (طائشة الضفائر) للشاعر نزار قباني.
يجمع كثير من العارفين على أن اللمحمة للشاعر الفذ هاشم صديق هى التي فتحت للفنان محمد الأمين نوافذ جديدة أطل عبرها على الجماهير، وقد اعترف هاشم ود آمنة بأن ود الأمين هو الذي بث الروح في أوصال القصيدة ومنحها المزيد من الحياة والحيوية، وقال إن محطة الملحمة بالنسبة لمحمد الأمين هي التي أثبتت بصورة أو بأخرى ان ملكاته الصوتية تحمل الكثير من القدرات الدرامية، بمعنى أنه يفسر الكلمات تفسيراً موسيقياً درامياً، وكان من الممكن ان تكون الملحمة مشروعاً للدراما الموسيقية السودانية التي أتفقت على إنجازها أنا والصديق مكي سنادة وشاركنا محمد الأمين في مناقشة تطورات هذا المشروع بمنظور مستقبلي، ثورية محمد الأمين لم تنكسر فهو قد غنى الملحمة فى أحد المهرجان وبحضور الرئيس الراحل جعفر نميري فى اوج جبروته وبطشه، وكان المقطع يحتشد بالرسائل الخطرة (لما يطل فى فجرنا ظالم نحمى شعار الثورة نقاوم) حتى غادر المسرح، وقبلها كانت البداية مع إبن مدينته فضل الله محمد في نظم ترانيم (الأكتوبريات) ،، من الأشياء الطريفة التي يسردها ود الأمين بخصوص قصة الملحمة أنه في الأيام الأخيرة لتنفيذ العمل سألني موسى محمد إبراهيم عن المقدمة الموسيقية لهذا العمل وبالفعل لم تكن هناك مقدمة موسيقية وأضاف ود الأمين: أذكر أنني أمسكت العود وبدأت أداعبه ثم قلت له بعد دقائق أن المقدمة ستكون هكذا وكان يدون النوتة وبدأنا وخرجت المقدمة الموسيقية في لحظتها رغم أنني وحتى لحظة امساكي بالعود لم اكن أدري كيف ستكون المقدمة الموسيقية .
الراحل محمد الأمين، وما أقسى هذا الوصف، جمهوره في كل مكان، أفندية وصنايعية وتجار ورجال أعمال وعشاق من غِمار الناس، يرددون على طريقتهم، ود الامين يااا، صوته كالبحر القديم يهدر في الفضاء حاملاً الجملة الغنائية ليحطمها على الحدود المطلقة للصوت، الصوت الذي غني (حلم الأماس) (وحياة ابتسامتك) و(الملحمة) الصوت الذي ينتمى لعالم البشر الأنقياء ولا ينتمي لهم بنفس المقدار، فسحب لفضاءاته جيل كامل لم يعد يسمع ولا يدفع ثمن تذكرة لا تقود إلى مسرح محمد الأمين ذلك الفلتة الغنائية التي لا تعوض بمليون أسطوانة وشريط كاست، فهل لا زال الرجل يغني؟ لقد رحل بالفعل، وبعيداً عن بلاده التي عشقها، لكنها اليوم تحترق، وتتعرض للنهب والدمار من لصوص ومجرمين، لا يأبهون بالتاريخ والموسيقى، ما ضاعف معاناته، إذ تمتزج الحقائق بعواطف وأخيلة وحزن وجمل وتاريخ يمشي على ساقين سمر وحنجرة كالميثولوجيا سمتاً ومعنى، ود اللمين يااا.
عزمي عبد الرازق