إهانة الضحك..!
مفارقة غريبة ومتهافتة، تمخضت عن عدة مفارقات أشد غرابة وتهافتًا، تَشِى بممارسات سلوكية متضاربة وشعارات رنانة أو لافتات ومسلمات مغلوطة أو بلغة العصر «ترندات» تعكس أبعادًا تدعو إلى الدهشة والأسف، بطلها ممثل شاب ليس مغمورًا بقدر كافٍ وليس معروفًا بشكل شائع يقدم أدوارًا هزلية في بعض المسلسلات والمسرحيات والأفلام.. ظهر فجأة في مقطع بموقع فيسبوكى بوجه حزين يغلب عليه القنوط والامتعاض ليعلن اعتذاره الحاسم الباتر عن عدم تأدية دوره في مسرحية «زواج اصطناعى» بموسم الرياض بالسعودية.. والاعتذار مشفوع بتبريرات يراها واجبة وحتمية.. تتسق مع الأخلاق المرعية والمثل الرفيعة والضمير اليقظ.. والهِمّة الوطنية.. الاعتذار سببه أن المسرحية تحتوى على فكاهة ومرح وتنكيت وفرح وبهجة وتهريج وهزار ورقص وطبل وزمر وزيطة وزمبليطة وضحكات صاخبة، فكيف يتجاسر على إضحاك النظارة، ويطاوعه قلبه على مسامرتهم، ذلك القلب الذي ينزف ألمًا طاغيًا وحزنًا مريرًا واكتئابًا مسيطرًا، بينما جثث إخواننا شهداء غزة تتناثر، وتملأ البقاع في حرب إبادة وحشية يمارسها العدو الإسرائيلى البغيض.
ونحن إذا كنا- دون أدنى شك- لا ننكر بأى حال من الأحوال روح الشاب السامية ومشاعره الفياضة المتقدة، وحسه الوطنى النبيل.. وغضبه الجامح المستعر.. كما لا نصادر حريته الكاملة وحقه الإنسانى الأصيل في اتخاذ أي قرار يتسق مع قناعاته ورؤيته وتصوراته الشخصية، دون وصاية أو تنمر أو سخرية من أحد عليه،
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل لو كانت المسرحية تنتمى إلى الميلودراما الفاجعة والأحداث الدامية والصراعات المأساوية الزاعقة ونوائب الدهر المروعة وإلى العويل والانتحاب والآهات والصراخ والدموع، هل كان في هذه الحالة سوف يستجيب للاشتراك في العمل؟!.
تكمن المفارقة إذًا في أن ممثل الأعمال الهزلية- التي يطلقون عليها تجاوزًا الكوميديا- هو ضد فن الكوميديا، الذي يجبره على إضحاك الجماهير، فأى عار ذلك الذي يُقبل عليه في هذا التوقيت العصيب وضحايا الحرب الدامية يُعدون بالآلاف.. ذلك أنه لا يدرك جوهر ومعنى ومغزى ومفهوم وفلسفة الكوميديا الحقة، ذلك الفن عظيم الشأن، ويُصدِّر لمتابعيه على «فيسبوك» تقريرًا بكراهيتها وازدرائها.. ويتصور أنها تعنى التهريج الرخيص.. والرقص الخليع.. والإسفاف والابتذال والهلس والمسخرة والتريقة والإفيهات الفاقعة والنكات البذيئة والضحكات الرقيعة.
والحقيقة أن الكوميديا بمعناها الحقيقى هي التي تجنح إلى طرح القضايا والمشاكل الاجتماعية والسياسية والفكرية المتصلة بالواقع المعيش، وتُعنى بمشاكل المجتمع وتحولاته ومثالبه المرتبطة بعيوب الشخصيات، وتعمل على إثارة وعى المتلقى.. وهى فن الاحتفال بالحياة ومباهجها والأمل في تغيير الواقع التعس وتجاوز الكوارث بإعمال العقل وطرح الأفكار المبتكرة.
وإذا كانت الكوميديا ومن ثَمَّ الضحك الذي يتولد عنها حقيقة أساسية بجوهر حياة الإنسان على الأرض.. فإنها تتشابك مع رغبته الأصيلة في التخلص من مآسيه.. والضحك استعلاء على الحزن والقهر والإحباط والفشل وتحدٍّ للألم والموت والفناء وحرب ضد العدوان والشر والتسلط والظلم والطغيان والديكتاتورية.
فإذا كان الحزن، ومن ثَمَّ التراجيديا، يفرضان علينا قوانين العالم، التي لا إرادة لنا فيها.. فإننا في الضحك، ومن ثَمَّ في الكوميديا، نفرض نحن على العالم قوانينا وإرادتنا.
ومن هذا الصراع تستمد فنون الضحك دائمًا قوتها العظيمة وسحرها الرائع.. وفى الكوميديا السوداء- التي تتجاوز فيها السخرية معنى الاستهزاء والتهكم، وترتفع إلى مستوى التأمل والفلسفة والحكمة- يصبح للضحكات طعم مُر.. ومذاق حزين وأسى مقيم.. ويصبح الضحك استعلاء على البكاء، وتجاوزًا له، كما يصبح الضحك فيها نتيجة، وليس هدفًا في حد ذاته، (كما يرى للأسف بعض النقاد المتخصصين، الذين يباركون الضحك للضحك، وكما يتصور الفنان الشاب «محمد سلام» موضوع هذا المقال).
يقول توفيق الحكيم: «الحياة تصنع المأساة، ولكن الفرح والضحك هما الشىء الذي نخلقه نحن لنرش الماء على النار.. ونبنى أسوارًا حول العاصفة، التي في داخلنا حتى لا نتركها تدمرنا وتقضى علينا».
ونحن نقول إنه إذا كان (الحزن) دليلًا على وجود المشاعر والعواطف الجيّاشة المحتدمة في القلب، فالضحك دليل على المعرفة والفهم الذكى لتناقضات الحياة وبديل للبكاء.. فعندما يبتسم الحزين ويبتهج المكتئب فكأنهما يقولان إننا طرف في المأساة، ولكننا قررنا أن نحتمل، ونستمر في طريقنا، ونحن ندرك أن الأشواك تملأ الطريق.
السؤال الثانى الذي يطرح نفسه: هل قرأ الممثل الشاب نص المسرحية، واكتشف أنه نص متهافت.. ودوره فيه تافه وساذج، ولا يليق بموهبته الفنية السامية أو إذا كان يفهم جوهر الكوميديا الحقيقية الراقية ورسالتها الإنسانية العميقة- كما أوردناها- ووجد في النص تهريجًا رخيصًا وهلسًا سمجًا.. ورسمًا لشخصيات بلهاء.. فلماذا لم يعتذر عن عدم الاشتراك لهذه الأسباب، في هدوء وصمت وترفع، بدلًا من الاعتراض العلنى الفضائى، الذي أهان فيه- دون أن يدرى- الفن في عمومه، والكوميديا في جوهرها.
عاطف بشاي – المصري اليوم