إخوان الدم.. ماذا فعل صراع الجنرالين بأسرتين سودانيتين؟
فجر الجمعة الأولى من أغسطس الماضي، جابت 4 سيارات لاند كروزر محيط قيادة الفرقة 21 بالجيش السوداني، غرب مدينة زالنجي، بإقليم دارفور، تحمل مسلحين ينتمون إلى عناصر الدعم السريع، عقب اشتباكات مع قوات الجيش على مدار 7 ساعات، وصفها أهالي بالدامية، لم يتوقف خلالها صوت الرصاص الذي دوّى في أرجاء المدينة التي تعتبر عاصمة وسط الإقليم.
لم تتمكن قوات الدعم السريع من السيطرة على مقر قيادة الفرقة 21 بالجيش؛ لكنها فرضت حصاراً على مداخل المدينة وطرقاتها الرئيسية، ونصبت أكمنة أمنية ونقاط تفتيش على أطرافها، تمهيداً لمحاولة جديدة للسيطرة على المدينة الأهم في دارفور.
الخوف من التطور السريع للصراع الذي كان ينهي شهره الرابع آنذاك، دفع العديد من الأهالي إلى النزوح عبر دروب وممرات فرعية خارج حدود ولايات الإقليم الخمس، وليس خارج المدينة المحاصرة، بينما لم يشغل الرحيل آخرين من قاطني المدينة رغم الدمار الذي خلّفه الصراع بها، بقدر انشغالهم على أبنائهم الذين يقاتلون في صفوف طرفي الصراع، فالعديد من عائلات ولايات ومدن الإقليم، يتقاسم أبناؤها الانتماء والقتال ضمن قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وبعد مرور 7 أيام، تمكنت قوات الجيش من فك الحصار المفروض على المدينة التي عانت من انقطاع الاتصالات والخدمات منذ شهور، لكن ذلك لم يغير مخاوف الأهالي على أبنائهم، خاصة مع تجدد الصراع مجدداً، فالحرب التي تتزايد شراسة يوماً بعد يوم لم تضع أوزارها.
ويتزايد الأمر تعقيداً داخل الأسرة الواحدة التي يقاتل أحد أبنائها ضمن صفوف القوات المسلحة، بينما شقيقه يقاتل في صفوف الدعم السريع، كما هو الحال في أسرتي “جالي وأباذر”.
ورغم الاختلاف الجغرافي والقبائلي بين أسرتي “جالي وأباذر”؛ حيث تقيم الأولى بعاصمة الإقليم بمدينة زالنجي بوسط دارفور، بينما الثانية يعيش أفرادها بمدينة نيالا جنوب دارفور، فإن معاناتهما تتشابه بين طرفي الصراع، وتخوفهما من مواجهة أبنائهما المرتقبة في ساحة المعركة التي تتزايد تعقيداً كلما طال أمد الحرب، خاصة داخل دارفور، وهي مواجهة قد تفضي إلى قتل القوات التي ينتمي إليها أحدهما شقيقه الآخر، وربما يقتل أحد الشقيقين شقيقه؛ وبالتوازي مع تطور الحرب واتساع رقعتها تتزايد الانتهاكات والاعتداء على المدنيين.
أسرتا “جالي وأباذر” نموذجاً لمئات وربما آلاف الأسر السودانية في دارفور التي يقاتل أبناؤها في صفوف قوات عسكرية سودانية تقاتل بعضها البعض، في مشهد لم تشهده السودان قبل ذلك رغم معاناتها من الحروب الأهلية خلال العقود الماضية، والانقسامات الجغرافية والصراعات المسلحة التي عايشتها الدولة السمراء الواقعة شمال شرق أفريقيا.
إقليم دارفور يمثل انعكاساً للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان، فجميع أزمات الخرطوم وصراعات المؤسسات والساسة وأصحاب النفوذ بالعاصمة السودانية، سرعان ما تتحول إلى واقع على الأرض في الإقليم الحدودي، كما حدث ويحدث في الصراع الحالي.
الاشتباكات المسلحة التي اندلعت بين قوات الجيش السوداني وجنود الدعم السريع في محيط القصر الرئاسي بالعاصمة السودانية الخرطوم، منتصف إبريل الماضي، انتقلت في أقل من ساعتين إلى مدينة زالنجي بإقليم دارفور في اليوم الأول للحرب.
المواجهات المسلحة التي انتقلت إلى الإقليم، الذي يستغرق الوصول إليه من الخرطوم بالسيارة أكثر من 29 ساعة، كانت حدّتها أكثر عنفاً ودموية خاصة في 3 ولايات “الوسط، والجنوب، والغرب”، بينما الولايتان الرابعة والخامسة بالإقليم الذي أنهكته الحرب الأهلية خلال العقود الثلاثة الماضية كانت أقل حدة في أيامها الأولى، لكنها تصاعدت تدريجياً لتصبح أكثر دموية وشراسة في أرجاء الإقليم.
أوائل ثمانينات القرن الماضي، استقر والد محمد جالي في مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور في غرب السودان، متمرداً على طبيعة العائلة التي يتوارث أبناؤها مهنة رعي الأغنام والجمال في الصحراء جيلاً بعد جيل ولا تعيش الأسرة في مستقر ثابت لفترة طويلة لانتمائها للعرب الرحل، الذين تقدر نسبتهم بـ2.5% من السكان، ويساهمون في الاقتصاد القومي بنسبة تتجاوز 29% من إجمالي الدخل القومي للدولة، حيث يمتلكون 59% من الثروة الحيوانية السودانية التي تقدر بـ 140 مليون رأس ماشية، بحسب دراسة ميدانية عن قبائل العرب بالإقليم للدكتور الشفاء عبد القادر حسن.
محمد جالي الذي ينتمي لأسرة تتكون من 12 شخصاً (3 أولاد،7 بنات، والوالدين) يتهم حكومات السودان المتعاقبة خلال الـ4 عقود الماضية، بإهمال تعليمهم وعدم توفير الرعاية الصحية والاجتماعية لهم كعرب رُحّل، فأسرة جالي لم يحظ أي من أفرادها بتعليم جامعي، باستثناء محمد الذي كان أوفر حظاً من أشقائه بحصوله على بكالوريوس تجارة من جامعة السودان عام 2014.
رواية محمد جالي تؤكد ما انتهت إليه دراسة الدكتور الشفاء عبد القادر التي تتناول أوضاع العرب الرحّل؛ حيث تؤكد تفشي الأمية بين البدو بشكل واسع ومعاناتهم من نقص الخدمات الضرورية؛ مثل التعليم والصحة والمياه.
بينما شقيقاه؛ مصعب ويعقوب، انعكست عليهما آثار الحرب الأهلية التي كانت بدايتها تمرداً مسلحاً على نظام البشير، اندلعت شرارته الأولى في فبراير 2003 بالإقليم الحدودي، الذي تفاقمت فيه الأزمات والصراعات بسبب الحرب، وكان حال الشقيقين كحال آلاف الشباب من سكان الإقليم الذي يقدر عدد سكانه آنذاك بـ 6 ملايين نسمة.
وتمكنت قيادات التمرد المسلح آنذاك من السيطرة على مدينة قولو في شمال دارفور، وبعدها بأيام طالبت قيادات حركتي “العدل والمساواة” و”جيش تحرير السودان” أبرز حركات التمرد بتقسيم عادل للسلطة والثروات في البلاد.
وفي محاولة من البشير لإضعاف هذا التمرد ووقف تمدده، أصدر قراراً عام 1994 بتقسيم دارفور إلى ولايات، معتبراً وحدة الإقليم الحدودي من أسباب اندلاع التمرد وقوة الحركات التي تسيطر عليه.
يتذكر محمد جالي هذه الفترة، التي كان الأجر اليومي الذي يتقاضاه والده مقابل رعي الأغنام والجمال وغيرها من الماشية مصدر الدخل الوحيد للأسرة؛ حيث كان يرعى الماشية بالوديان الصحراوية في الإقليم وخارجه في رحلات رعي طويلة بصحراء جنوب السودان الغنية بحشائش السافانا، وكانت رحلة الرعي تستغرق أسابيع وشهوراً قبل انفصال جنوب السودان، “والدي يعمل بالرعي كمهنة وليس مالكاً للبهائم والغنم”، يقول محمد جالي الذي كان آنذاك طالباً يتفرغ في فترة الدراسة للمذاكرة، بينما شقيقاه يساعدان والدهما في رعي الماشية.
هدأت وتيرة الحرب بين قوات الجيش وحركات التمرد، ووقّعت الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة اتفاقاً لوقف إطلاق النار، ونجحت الحركة في نيل شبه حكم ذاتي لجنوب السودان، لكن الحرب التي اتهم نظام البشير ومليشيات الجنجويد بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين بسببها لم تنته.
تطور الأمر في مارس 2009، بصدور مذكرة اعتقال للرئيس عمر البشير، بعد اتهام المحكمة الجنائية الدولية لنظامه بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور، في سابقة هي الأولى من نوعها للمحكمة الدولية التي طالبت باعتقال رئيس دولة ما زال في منصبه، وهو ما رحّبت به حركات التمرد السودانية واعتبرته انتصاراً، بينما البشير اعتبرها “أداة استعمارية ضد القادة الأفارقة”، ورفض الاعتراف بها.
تمكن محمد جالي من إنهاء دراسته بجامعة الخرطوم، بينما شقيقه مصعب لم يلتحق بالدراسة، وشقيقه الأصغر يعقوب توقف في السنة الثامنة (الشهادة الإعدادية)، ولم يتمكن من انتهاء مرحلة التعليم الأساسي، والسبب يرجع إلى الظروف والأزمات التي خلقتها الحرب، “حاصرتنا الظروف السيئة في كل أمورنا، فلا اهتمام بالتعليم، والمهن التي تتوافر لنا هامشية، وشعور الاغتراب والرغبة في اللجوء والهجرة يسيطر علينا”، يحكي “. محمد جالي، الذي منع أشقاءه من الهجرة غير الشرعية أكثر من مرة خوفاً على حياتهم، “كان أخواتي يتحدثون عن آمالهم في السفر للخارج لأوروبا أو ليبيا
واستطاع محمد، الابن البكر لأسرة جالي، بعد حصوله على المؤهل الجامعي، العمل “مصرفي” بأحد فروع البنوك بعاصمة الإقليم التي يتجاوز عدد سكانها وقتها 9 ملايين نسمة، بينما شقيقاه مصعب ويعقوب كان لهما اختيار آخر؛ جعلهما اليوم في صفوف قوات عسكرية تقاتل كل منها الآخر، ويخشى ذووهم من مواجهتها في هذا الصراع الدائر بين حرب الجنرالين السودانية.
ومع انفصال جنوب السودان وإعلانه دولة مستقلة عام 2005، أصبحت أماكن الرعي محدودة في إقليم دارفور، ولم يستطع الأهالي العبور إلى أراضي الجنوب؛ ما تسبب في حدوث صراعات بين من يعملون في مهنة الرعي وأصحاب المزارع التي كانت قوافل الرعي تتعدى عليها في دارفور، بسبب الأزمة الكبير التي يواجهها سوق الماشية في السودان، وتحول هذا الصراع إلى أزمة يعاني منها الإقليم؛ بحسب الصحفي السوداني المعتصم طاهر المتخصص في الشؤون الداخلية السودانية.
وكان نتيجة هذه الأزمة انتشار السلاح بين العامة من أبناء الإقليم، وفقاً للمعتصم؛ مما تسبب في وقوع العديد من الضحايا من مواطني دارفور خلال المشاحنات اليومية بسبب قلة المزارع، بالإضافة الى الصراعات القبلية التي عادة ما تكون دائرة دائماً.
هدأت وتيرة الحرب عام 2011، ووقوع طرفي الصراع اتفاقية سلام في العاصمة القطرية الدوحة، ورغم ذلك لم تتغير الأوضاع المعيشية لأهالي الإقليم الذي يتمدد على مساحة 493 كم، لم يشعر سكانه بأي تغيير في حياتهم اليومية.
ما يحدث اليوم في دارفور يحاكي ما كان يحدث قبل 20 عاماً؛ حيث رصدت منظمة هيومن رايتس ووتش في 11 يوليو الماضي تصاعد إراقة الدماء لدوافع عرقية، ففي يوم واحد قَتل مسلحون 40 مدنياً بأحد الأحياء السكنية في دارفور، بالتزامن مع الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ويواجه المتطوعون صعوبة في دفن الجثث المتناثرة في الشوارع بحسب بيان هيئة محامي دارفور التي رصدت مقتل عدة شخصيات بارزة خلال الأيام الماضية في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور.
مصعب الشقيق “الأوسط” لمحمد جالي انضم إلى قوات الجيش السوداني بالخرطوم، بعد فشله في السفر إلى أوروبا عن طريق ليبيا، كمحاولة منه للحصول على وظيفة دائمة توفر له دخلاً ثابتاً، فالشاب الذي تجاوز العشرين عاما، لم يكن يستطيع الحصول على مهنة توفر له دخلاً ثابتاً حتى ذلك التوقيت، كما يروي شقيقه محمد.
وانعكست ظروف نشأة مصعب، المولود عام 1992، والتي يصفها شقيقه بـ”الصعبة”، على شخصيته، فكان يتميز بين أفراد أسرته بأنه “حاد الطباع”، يقول: “مصعب من حقه أن يؤسّس حياته ويختار مستقبله ويكون عنده مصدر دخل خاص به”، واختار أن يدخل الجيش واستخرجت له الأسرة الأوراق الثبوتية، وأصبح عسكرياً في الجيش، بمجرد التحاقه بقوات الجيش شارك في التصدي لأحداث التمرد التي اندلعت مجدداً في الإقليم.
في ذلك الحين كانت قوات الدعم السريع مليشيا مسلحة غير شرعية تحت اسم ميليشيات الجنجويد، لكن النشأة التاريخية لها تعود إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، مع ظهور الميليشيات القبائلية خلال الفترة الانتقالية التي تلت سقوط الرئيس جعفر النميري عام 1985، يقول الصحفي السوداني طاهر المعتصم: “في هذا التوقيت سَلّحت حكومة سوار الذهب الانتقالية القبائل العربية في دارفور والجنوب، لمساعدتها في حربها ضد المتمردين في جنوب السودان وحماية حدود البلاد الجنوبية وتأمين القوافل التجارية، ورحّبت القبائل بهذه الخطوة باعتبارها خطوة ستمكّنها من تأمين تجارتها وحماية أرضها وأبنائها”.
ومع دعم الدولة المتزايد في العتاد والسلاح، تحولت هذه المليشيات المسلحة إلى قوة شبه عسكرية وتصاعد اعتماد نظام البشير عليها تدريجياً للتصدي لتمدد المتمردين في جنوب وغرب السودان في تسعينات القرن الماضي، وأصبح لها نفوذ وسلطة سياسية خارج حدود الجغرافيا التي تنتمي إليها قبائلها.
كمحاولة لاحتواء مليشيات الجنجويد، أصدر البشير قراراً بإعادة هيكلة الميليشيا القبائلية المسلحة في أغسطس 2013، تحت مسمى قوات الدعم السريع لتصبح ضمن قوات جهاز الأمن والمخابرات، وأصبحت مهمتها الرسمية محاربة جماعات التمرد والتصدي للهجمات التي تشنّها هذه الجماعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ولمزيد من الدمج الاحتواء وفرض سيطرة البشير ونظامه، صدر تشريع قانوني عام 2017، يضع قوات الدعم السريع تحت إمرة رئيس الجمهورية مباشرة رغم تبعيتها للقوات المسلحة في الوقت نفسه، هكذا نص القانون الجديد، الذي لم يعترض عليه أثناء مناقشته في البرلمان غير النائبة مواهب السيد، التي رفضت تكوين هذه القوات والتصديق على القانون، قائلة آنذاك: “هذه القوة ستتسبب في دمار السودان”.
وبناء على الوضع الجديد لقوات الدعم السريع التي أصبحت قوات أمنية تتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ولها نفوذ اقتصادي وسياسي وأمني؛ بدأت الحركة في تجنيد عناصر من خارج دوائر قادتها المنتمين إلى عواقل وعائلات قبيلة الرزيقات، التي تشتهر بتجارة الإبل على الحدود التشادية والليبية، على عكس ما كان يحدث عندما كانت مليشيا مدعومة من الدولة لكنها غير رسمية؛ كان الانضمام إلى صفوفها مقتصراً على بعض أبناء قبيلة الرزيقات، وكانت مهمتهم الأساسية مواجهة عناصر وتشكيلات التمرد في إقليم دارفور.
فتح باب التجنيد أمام جميع السودانيين للانضمام إلى صفوف قوات الدعم السريع، كان دافعاً لمئات وربما الآلاف من أبناء دارفور، كما يحكي محمد جالي للانضمام إلى صفوف هذه القوات، خاصة أن العائد المادي كان يتجاوز ضعف الراتب الذي يتقاضاه المتطوع في الجيش السوداني، هو ما اعتبره شقيق محمد جالي الأصغر يعقوب، فرصة جيدة لتوفير مصدر دخل جيد له، لا يقارن بالدخل المتقطع من عمله غير الدائم بالتجارة، بخلاف النفوذ والحماية التي يتمتع بها المتواجدون في صفوف قوات الدعم.
ورغم ذلك لم تتمكن قوات الدعم من التواجد داخل العاصمة السودانية الخرطوم، لكنها في المقابل تمكنت من تكوين إمبراطورية اقتصادية ضخمة مكّنتها من إقامة علاقات خارجية ودولية، كما يرى الصحفي والمحلل المتخصص في الشأن السياسي السوداني طاهر المعتصم، وكأن أحد أعمدة هذه الإمبراطورية استخراج الذهب وبيعه في الخارج كما كان يحدث مع روسيا وغيرها من الدول، وهو ما رسّخ لوجود علاقة بين مجموعة فاجنر الروسية وقوات الدعم السريع.
استطاع يعقوب عام 2018، أن يكون ضمن قوات الدعم السريع، وكان الالتحاق بقوات الدعم السريع لا يوجد به أي عقبات مثل ما يحدث الآن، كما يروي شقيقه محمد، فلم تكن قيادات الدعم السريع تهتم بالأمور الصحية وتفاصيل الأشخاص المنضمين إلى صفوفها، وهو ما ساعد شقيقه، الذي ما زال يعاني من ندبة في رأسه نتيجة إصابة برصاصة، من أن يصبح أحد الجنود بقوات حميدتي، بمجرد انتهاء فترة تدريب لم تتجاوز الـ 6 أشهر، ليلتحق رسمياً بصفوف قوات الدعم وقت سقوط البشير والمظاهرات التي اندلعت ضده، وعيّن يعقوب آنذاك ضمن الارتكازات الأمنية في وسط العاصمة الخرطوم.
وجود دخل مادي ثابت لـ”يعقوب” شجّع أسرته على دعمه في الزواج من ابنة خاله عام 2019، وأقام معهم في نفس البيت، وكان يقضي 6 أشهر في المكان الذي يخدم فيه، ويقضي شهرين إجازة مع أسرته.
ما حدث مع يعقوب ومصعب شقيقي محمد جالي تكرر مع آخرين منذ تحولت مليشيا الجنجويد إلى قوات الدعم السريع المدعومة والمعترف بها رسمياً من جميع مؤسسات الدولة السودانية بما فيها القوات المسلحة السودانية، ولم تقتصر عمليات الانضمام إلى قوات الدعم على منطقة بعينها، وإن تضاعف عدد المنضمين إليها في المناطق التي يتزايد فيها نفوذ الدعم السريع، كما حدث في مناطق غرب السودان خاصة ولايات إقليم دارفور الخمس، لكنها لم تتمكن من التواجد داخل العاصمة السودانية الخرطوم.
تكررت تجربة “آل جالي” في جميع ولايات ومدن دارفور مع مئات الأسر، ففي جنوب الإقليم الحدودي وتحديداً مدينة نيالا، كما يروي سالم سالك، الذي كان من بينهم أبناء عمومته؛ حيث انضم الشقيق الأكبر أباذر إلى قوات الدعم السريع في عام 2015، بعد فشله في الحصول على فرصة عمل عقب تخرجه في جامعة الخرطوم، بينما شقيقه الأصغر مُزّمل الذي لم يستكمل دراسته التحق بقوات الجيش السوداني عقب وفاة والدهما بشهور كمجند، لكي يتمكن من توفير دخل مالي ثابت لأسرته، خاصة أن شقيقه أباذر، الذي يكبره بخمسة أعوام، ما زال في الثانوية العامة ويخطط لاستكمال دراسته الجامعية.
لم يتوقع أو يتخيل “أباذر” و”مزمل” أن يحدث الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع، وكان انضمام أي منها للجهة التي يعمل بها كان من أجل البحث عن فرصة عمل مضمونة، كما يحكي سالم عن أبناء عمومته.
تجنيد الشباب من أبناء القبائل السودانية في مدن غرب السودان وولايتها إلى قوات الدعم السريع تحول إلى ظاهرة منتصف عام 2015، مع إعلان السعودية لما يعرف بـ”التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن” ضد الحوثيين، التحالف الذي كان يعمل تحت قيادة السعودية، ويضم 10 دول من بينها السودان، من أجل استعادة سلطة الحكومة المعترف بها دولياً.
وكان ضمن القوات التي أرسلها الرئيس السابق عمر البشير للمشاركة في حرب اليمن وحدات من قبل الدعم السريع، وكان “أباذر” من بين قوات الدعم التي سافرت إلى اليمن.
يحكي سالم سالك عن سفر ابن عمه قائلاً: تحمّس “أباذر” للسفر إلى اليمن طمعاً في ارتفاع راتبه الشهري 4 أضعاف ما كان يحصل عليه في السودان، وقضى هناك 3 أعوام، وقبل أن ينهي عامه الأخير في السعودية، استدعى الجيش شقيقه الأصغر “مزمل” للسفر إلى السعودية للمشاركة ضمن القوات المسلحة السودانية في حرب اليمن، وأصبح كل منهما في معسكر القوات التي ينتمي إليها.
ويرى طاهر المعتصم، المحلل السياسي، أن حرب التحالف بقيادة السعودية لعبت دوراً كبيراً في تعاظم قوة القوات الدعم، التي شاركت فيها بأمر من البشير، ما كان نواة لتكوين علاقات خارجية دولية، وجمع أموال هائلة مقابل الحرب مكنتها من استقطاب آلاف الشباب عن طريق الإغراء المادي.
تمكنت قوات الدعم السريع لأول مرة من دخول العاصمة السودانية الخرطوم، كقوة عسكرية مع اندلاع ثورة ديسمبر 2018، بأوامر من الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير، من أجل حماية البشير ونظامه وقمع المتظاهرين الذين يطالبون برحيله، كما يروي طاهر المعتصم، متحدثاً عن تورط قوات الدعم السريع فيما يُعرف إعلامياً بـ”مجزرة القيادة العامة” أوائل يونيو 2019، خاصة أن الفيديوهات التي تم تصويرها وقت ارتكاب المجزرة تظهر جنوداً يرتدون زي الدعم السريع اقتحموا اعتصام القيادة أثناء وقوع ما وصفه بالمجزرة.
عبر وساطة رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد والاتحاد الأفريقي، وقّعت القوى السودانية وثيقة دستورية منتصف أغسطس 2019، وانحاز قائد الدعم السريع للثورة السودانية ضد نظام البشير، لاحقاً طلب قائد الجيش أن يكون حميدتي قائد الدعم السريع نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، بحسب إفادة وزيرة العمل والإصلاح الإداري تيسير النوراني.
ويرى سالم سالك أن قوات الدعم السريع خدعت الشباب السودانيين بالمرتب الكبير والرتبة العسكرية، كما حدث مع ابن عمه “أباذر” الذي يحصل على استحقاق مالي (راتب شهري) يفوق ما كان يحصل عليه شقيقه وأقرانه في صفوف الجيش، بخلاف المزايا الأخرى منها ما تحقق مثل حصوله على سيارة وحماية (اللي بيدخل قوات الدعم ليس لديه أي مفر من قبضتهم) ومنها ما لم يتحقق مثل حصوله على رتبة ضابط لحصوله على مؤهل عالٍ.
وبعد عودة الشقيقين إلى السودان عاد كل منهما إلى المعسكر الخاص بالقوات التي ينتمي إليها؛ “مزمل الذي ينتسب للقوات المسلحة السودانية يعمل في ولاية وسط دارفور، بينما أخوه الأكبر الذي يعمل في قوات الدعم السريع تم توزيعه في ولاية شمال دارفور، ولا يلتقيان إلا إذا صادف وجودهما في الإجازة معاً.
مدينة “نيالا” بإقليم دارفور التي ينتمي إليها سالم سالك وأبناء عمومته “مزمل وأباذر”، ورغم وجود أحدهما ضمن صفوف قوات الدعم السريع، تعرضت لعشرات الحملات التي يشنها عناصر الدعم السريع وتعاني من انقطاع مستمر للتيار الكهربائي وخدمات الاتصالات منذ أوائل مايو الماضي، ودُمر ونهب السوق الرئيسي لها، ويعاني أهلها من دعم توفر احتياجاتهم الأساسية.
هذا الوضع الذي يصفه سالم، بـ”الكارثي” تسبب في نزوح 600 ألف خارج المدينة وضواحيها بعد مرور أكثر من شهر على عدم وصول أي مساعدات إلى المدينة، خاصة بعد تدمير وحرق كامل الأحياء السكنية بقرية “أبو أدم” المتواجدة على أطراف مدينة “نيالا” في هجوم متكرر لقوات الدعم السريع، ولم يتركوا شيئاً “حتى مكاتب المنظمات الإغاثية سرقوها واعتدوا عليها”.
الصراع المسلح بين الجيش السوداني والدعم السريع، يراه سالم سالك ومحمد جالي صراع جنرالين لفرض نفوذهما، فلم يسعَ أي منهما إلى العمل من أجل السودان وأهله، بينما الرباعي يعقوب ومصعب وأباذر ومزمل يرفض كل منها ترك الفريق الذي ينتمي إليه ويقاتلون في صفوفه، ويدافعون عنه، لكنهم يعجزون عن الرد عند لقائهم في ساحة المعركة، اقتراب مواجهة كل منها الآخر في ساحة المعركة.
وبينما يقاتل شقيقا محمد جالي وأبناء عمومة سالم سالك، ضد بعضهم البعض في صفوف طرفي الصراع، أُجبر محمد جالي وسالم سالك على حمل السلاح لحماية أنفسهما وذويهما من الهجمات المسلحة التي يتعرضون لها من عناصر مسلحة تهاجم بين الحين والآخر المنطقتين اللتين يعيشون فيهما مع أسرهم، بعض هذه العناصر المسلحة من الموالين للدعم السريع، والبعض الآخر من عناصر القبائل المتصارعة في دارفور، وهو ما يرسم سيناريو لـ”حرب دارفور الثانية”، كما يصفها المحلل السياسي طاهر المعتصم، الذي يحذر من تطور الحرب في دارفور للتحول إلى حرب أهلية يراها أكثر تدميراً ودموية من نظيرتها الأولى.
زادت الأمور تعقيداً بعد سيطرة الدعم السريع على مدينة ود مدني التي تعد من كبرى المدن السودانية، ولم يعقد لقاء قائدي الجيش والدعم السريع الذي تأجل أكثر من مرة رغم موافقة الطرفين على عقده، ليفقد آل “جالي وأباذر” أملاً جديداً في انتهاء الحرب التي تدخل شهرها التاسع.
قصة: محمد الصاوي – المصري اليوم