رأي ومقالات

نساء فلسطين خلقن من صمود وعزة

منذ أيام قليلة، خلال متابعتي لتقارير تليفزيونة مصورة من داخل خيام النزوح بقطاع غزة – ترصد الوضع اللا إنساني الذي يعيشه مئات الآلاف من البشر- حيث يفتقدون أبسط مقومات الحياة؛ لدرجة أنه فقط يفصلهم عن الموت التام حبس الهواء عنهم.

كل ذلك لأن هناك كيانا محتلا مجرما يسمى إسرائيل، قرر أن يبيد قرابة مليوني إنسان، بمساندة أمريكية كاملة، مدعومة أوروبيًّا، وسط تخاذل عربي وإسلامي رسمي غير مسبوق بهذه الصورة المؤسفة، وإن كنا كثيرا ما تعودنا عليه في العقود الأخيرة، باستثناء بعض دول لا يتخطى عددها أصابع اليد الواحدة، والتي تحاول المساعدة سياسيًّا في حدود المتاح، وهو قليل جدا ولا يكفي إطلاقا أمام أبشع جريمة حرب حدثت خلال القرن الحالي.

وسط كل ذلك، فوجئت خلال مشاهدتي بسيدة في سن الشباب تبدو بوجه شاحب منهك، لكنه باسم متفائل غير معلن لهزيمة أو يأس قط، وتقول بكل عزة وشموخ، عاشت المقاومة.. ونحن بخير ما دامت هي بخير.

ذلك في الوقت الذي نجد فيه بيننا من يبرر لجرائم الاحتلال بكل تنطع، بحجة أن المقاومة ضربته في السابع من أكتوبر الماضي، وكانت بمثابة صفعة لم ولن ينساها العدو أبدا. وردا على كل جرائمه وانتهاكاته المهينة، خلال احتلاله لأرض فلسطين منذ 75 عاما، والتدنيس الدائم للمسجد الأقصى مسرى نبينا الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، على مدار سنوات، في ظل عجز محزن من أمة تعدادها قرابة ملياري إنسان.

ولا يتسع المجال هنا لذكر المكتسبات التي لم نكن نتخيلها من هذه الأحداث الجارية، رغم أن الألم يعتصر قلوبنا، ولقد ذكرتها في مقالات سابقة.

والحقيقة لم أستغرب كثيرا، ذلك ما سمعته من هذه السيدة الكريمة، لأن هؤلاء الرجال قليلو العدد والعتاد، الذين يمرغون في التراب أنوف 100 ألف عسكري إسرائيلي بميدان القتال، لديهم جميع الإمكانيات والدعم الدولي الكامل.. لا يمكن أن تكون أمهاتهم نساء عاديات، لا يشغلهن سوى متاع الدنيا الزائل، وتفاهاتها عديمة القيمة.. بل هم مع حب الحياة ومحاولة التمتع بها مهما كانت الإمكانيات بسيطة، أيضا يحرصون على أن تكون هناك قيمة يمكن أن يبذلوا أرواحهم لأجلها.

ومن أوضح الأمثلة وأهمها على ذلك، هو ما سمعته مؤخرا من سيدة طاعنة في السن، لكنها تمتلك عقلا يقظا وروحا معلقة بالسماء مباشرة كما بدت.. وهي والدة الشيخ الشهيد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي تم اغتياله مساء الثلاثاء الماضي 2 يناير في منطقة المشرفية بالضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت، بواسطة طائرة إسرائيلية مسيرة، استهدفت مكتبا تابعا للحركة كان موجودا فيه، فلقي مصرعه على الفور ومعه 6 من رفاقه، منهم اثنان من قادة في كتائب القسام.

بعد أقل من ساعتين كانت إحدى القنوات العربية الشهيرة في منزل عائلة العاروري، وأجرت المراسلة حوارا مع والدته التي أبدت ثباتا لا يمكن تخيله، خاصة أن الحادث ما زال منذ قرابة 120 دقيقة فقط على الأكثر، وكل ما قالته تلك الأم الصابرة دون أن تدمع عيناها أو تبدي ضعفا وانكسارا: إنه كان دائما يطلب الشهادة، وها قد نالها ونبارك له عليها، كما ذكرت بعقل يقظ رغم كبر سنها مدد اعتقاله التي وصلت 18 عاما، حيث قالت اعتقلوة الصهاينة 15 عاما ثم 3 أعوام، وبعدها أبعدوه خارج فلسطين، ولم أره منذ 20 عاما.. هذه أم جاءها خبر مقتل فلذة كبدها، التي ربما كانت تأمل في احتضانه يوما من الأيام بعد طول فراق، وتشتم رائحته فأصبح ذلك مستحيلا، لكن يقينها بأن هناك لقاءً حتميا في جنات النعيم، وإيمانها بقضية وحق أهم من كل شيء؛ منحها كل تلك القوة التي لم وربما لن نراها إلا في فلسطين.. وهناك آلاف القصص لأمهات لو تم تدوينها لظن قارؤها أنها أساطير غير حقيقية.

كل التحية والتقدير والانحناء، احتراما للمرأة الفلسطينية العظيمة، التي إذا أراد أحد رؤية الكرامة تسير على قدمين فلينظر إليها، ولو أن كل نساء أمتنا مثلها؛ لعاد مجدنا وعشنا حقا سادة في هذا العالم.

شكرا سيدات الكون، فأنتن من تستحقون الحياة بجدارة، وصبرًا إن الفجر لقريب.

السعيد حمدي – القاهرة 24
208