رأي ومقالات

حلاوة الإيمان وحلاوة نعناع

يومها كنت على مشارف الدخول الى المدرسة الابتداية، يافعٌ ترسخُ في ذهنه كل كلمة وتوصيف…
وقد صدق من قال:
العلم في الصغر كالنقش في الحجر…
فقد بقيت لفظة (حلاوة الأيمان) تأتلق في خاطري بذات الجمال الذي تلقيتها به من فم جدي محمد الحسن حاجنور وأنا اليافع حينها…
لن أنس يوم قلت له:
-ياجِدّي، أنا ماشي أشتري حلاوة…
فما كان منه الاّ أن حملني بين يديه وقال لي بفصحاه التي اعتاد الحديث بها دوما:
-ياولدي أسأل الله أن يرزقك حلاوة الأيمان…
وبقيت (حلاوة الايمان) في خاطري بذات الجمال والحلاوة التي صاغها بها جدي حينها…
وتمضي السنون فإذا بهذا الحديث البهي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحـبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَ المرءَ لا يُحبُه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذَهُ الله منه كما يكـره أن يقذَف في النار.
ما ابهاه من حديث!
صلى عليك الله يانبي الهدى وأنت تؤسس للحب في أنفسنا.
لقد كتبت يوما عن الحب فقلت:
هو أسمى العواطف والمشاعر في وجدان كل الخلائق!
وهو رديف الرحمة…
ورفيق الصدق…
وصفيّ الهدوء والسكينة…
وان كان لكل شئ بيئة ينمو ليزهر ويفرخ فيها، فبيئته وسوحه وفضاءاته الجَمَال…
والأسلام بواقعيته اعترف بالحب على انه فطرة متأصلة في كيان الأنسان ووجدانه …
أقرأوا ياأحباب قول الله جل وعلا {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} التوبه الآية20
يقول عبدالله علوان في كتابه الأسلام والحب:
(الحب هو شعور نفسي، واحساس قلبي، وانبعاث وجداني ينجذب به قلب المحب تجاه محبوبه بحماسة وعاطفة وبشر، والحب بهذا المعني يكون من المشاعر الفطرية المتأصلة في كيان الأنسان، لا انفكاك منه ولا استغناء، وهو قابل في كثير من الأحيان لتحكم الأراده فيه الى ما هو اسمي وأفضل).
انتهى قول الدكتور.
ولعلي أقول:
لقد خلق الله القلوب مهيأة للحب على أطلاقه، ثم وضع لنا منهجا ومراتب وأولويات لهذا الحب، وأبان لنا بأن الذي لايؤسس لهذه الأولويات والمراتب في قلبه، تائه وهالك لا محالة!
أقرأوا قول الخالق جل وعلا:
{قل ان كان اباؤكم وابناؤكم وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتي ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبه الآية 24
إنّ حب الله الخالق هو أقصاها وأعلاها مرتبة…
وحب الله تعالى هو حب الطاعة والانقياد لكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية التزاما بالمنهج وسيرا على رضاه …
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به] رواه الطبراني والبيهقي.
ويقول الله تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة 165
فلا يستقيم الحب مع المعصية…
تقول رابعة العدوية:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيعٌ
ويقترن حب الله بحب رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه أذ طلب الله تعالى من نبيه أن يقول للمؤمنين {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} آل عمران31
فحبّ الله ورسوله يكون واجبا وكذلك ما يندرج تحت ذلك من الحبّ في الله ولله، ومن أعظم أنواع الحب من بعد ذلك هو الحب في الله، أي أن يحب الإنسان غيره لأنه شخص صالح و مؤمن وليس له في حبه منفعة ولا شهوة ولا قرابة ومن غير أن يناله منه أي نفع…
فمن أسس ذلك في وجدانه وجد حلاوة الأيمان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان أن يكون الله ورسوله أحـبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَ المرءَ لا يُحبُه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذَهُ الله منه كما يكـره أن يقذَف في النار”.
ثم يأتي من بعد ذلك ما يكون بمقتضى الطبيعة والجبلة كحبّ الوالدين والزوجة والأولاد والعشيرة والوطن ونحو ذلك، وهذا النوع له حدّ متى ما تجاوزه كان محرّماً!…
ومثال ذلك قول الشاعر أحمد شوقي مخاطباً وطنه:
ويا وطني لقيتك بعد يـأس كأني قد لقيت بك الشبابا
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا
فالشاعر هنا قد جعل من الوطن قبلته الأولى التي يدير إليها وجهه.
ومن الشعراء من سجد لحبيبته عندما لم يؤسس لمراتب الحب في قلبه!…
والحب يمهد الطريق إلى للأيمان، والأيمان بدوره يقود الى الجنة…
روى مسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله “و الذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم”.
اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا
ولا مبلغ علمنا، وأشرِب يارب قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب من تحب،
إنك ياربنا وليّ ذلك والقادر عليه…
سألني جدى رحمه الله…
– أيُّ حلاوة تحب ياعادل؟
فقلت:
-حلاوة لكّوم؟
فقال لي والإبتسامة تكسو وجهه الوضئ:
-لا لا لا ياابني، حلاوة الايمان أحلى منها بكثيييييييييير
ومدّ الياء مدّا
ثم انشغل عني بضيوف أتوه
بقيت افكر في كُنْهِ حلاوة الايمان،
وحالي كحال ابراهيم عليه السلام إذ رأى كوكبا فقال هذا ربي، وظللت أسابيع أقلب بصري ويدي ما بين المتاح من الحلوى، وكنت كلما انتهيت الى نوع منها أخالها هي حلاوة الايمان، أأتي بها وأعرضها على جدى وهو بين حِيرانه وتلامذته الدارسين للقرآن وعلومه في (خلوة البركل تحت)، فيشير الي بسبابته -باسما- بأن لا.
وظللت على ذلك إلى أن جاءه -يوما-أخوه محجوب حاجنور، (والد المرحوم الشيخ أحمد محجوب حاجنور) من نوري، وجدي محجوب ذاك كانت لديه تجارة مابين كوستي والقضارف ونوري، اعتاد بأن يزور جدي كل عام ويهديه مقطعي قماش من البوبلين والدبلان…
وخلال زيارته تلك، رأيت -مع الأقمشة- عددا من صناديق (حلاوة نعناع)…
يااااااه
وابتسمت ابتسامة نيوتن عندما سقطت التفاحة فاهتدى الى قانون الجاذبية كما يقولون، وتذكرت حينها بأن جدي قد اعتاد بأن يقدم-دوما- لضيوفه حلاوة نعناع هذه!
فأخذت منها واحدة ووضعتها في فمي…
يااااه
لكأني بطعم الجنة تجتاحني…
فهتفت وجدتها وجدتها وجدتها…
وقلت لنفسي بثقة لاتتزعزع:
– لعمري هذه -بلاشك- هي حلاوة الايمان…
وما كان مني الاّ أن أسرعت -مسابقا-ابن خالتي الذي يكبرني بعام، لملئ الأباريق للوضوء، حتى أتمكن من إخبار جدي بأنني قد اكتشفت أخيرا حلاوة الايمان…
ولكن، فاجأني رده، وسبابته المُلوِّحَة بأن لا، ودون ذلك ابتسامته العريضة!!
وتمر الأيام، فإذا بضيف عزيز يزور جدي…
لكم شكّل ذاك الضيف سوحا من وجداني!
دخل الضيف وعلى ظهره شنطة هاندباق زرقاء، نحيلا وذو قامة قصيرة ووجه تكسوه هالة من وضاءة وجدّية لاتخطئها العين…
كان ذاك الضيف هو القارئ المرحوم الشيخ صديق أحمد حمدون، حيث أمضى في دار جدي قرابة الأسبوعين، وكنت أسمعهما يتحادثان ويتلوان القرآن جل اليوم وطرفا من المساء، وعلى صغر سني أسمعهما يتحدثان عن (الورشة)…
والورشة كلمة معتادة لأهل البركل وكريمة لكونها تعني (ورشة حوض النقل النهري) التي يعمل فيها العديد من أبناء تلك المنطقة، لكنني بعد ذلك علمت بأنهما -رحمهما الله- يعنيان (وَرْش) صاحب القراءات المعروف.
وقصتي مع الشيح صديق احمد حمدون بدأت منذ أن صلى بنا أول صلاة مغرب، حيث قدمه جدي ليصلي بالناس فشرع يقرأ الآيات الكريمات من سورة الأنفال:
{ياأيها الذين آمنوا استجيبو لله وللرسول اذا دعاكم لمايحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه اليه تحشرون}
الى أن ختم بالآية الكريمة:
{ياأيها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}.
قرأها بصوته الندي والعميق، وأسلوبه ذاك المتفرد ذاك في التلاوة، وكم كان للفظ الجلالة وقعه الجميل في قلبي الصغير!…
واعتاد الشيخ صديق قراءة ذات الآيات في صلاة المغرب طيلة فترة استضافته في بيت جدي، فإذا بي أحفظها عن ظهر قلب!…
وقبيل سفره، جئت الى جدي وقلت له بأنني أود تسميع بعض الآيات، فتهلل وجه جدي، وشرعت أتلو، فاستبدت الدهشة بجدي وبالضيف!
لقد كانت تلاوتي بذات صوت وأسلوب الشيخ صديق أحمد حمدون! …
وابتسم الشيخ صديق أحمد حمدون وربت على راسي، وكذلك فعل جدي…
ومنذ ذلك اليوم اضحى صوتي مطابقا لصوت الشيخ صديق أحمد حمدون دون ان أتعمد ذلك، يقول لي ذلك كل من يقدر لي الله أن أؤمهم في صلاة جهرية.
اللهم أغفر لهما وافتح لهما في مرقدهما بابا من الجنة لايسد.

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com