بين ثورتي السودان والقاهرة.. مقاربة في تاريخ الخيانة
*بين ثورتي السودان والقاهرة.. مقاربة في تاريخ الخيانة* -(1)
يروي لنا الرافعي في كتابه (تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر) استهانة والي مصر المملوكي مراد بك خطر الحملة الفرنسية التي حذره منها القنصل النمساوي مسيو روسيتي إذ قال مراد بك بعد أن أغرق في الضحك «ماذا تريد من اخافتنا من الفرنسيين، ألم يكونوا أشباه الخواجات الذين كانوا بيننا؟ إنه ليكفيني إذا نزلوا إلى سواحل مصر في مائة ألف من رجالهم أن أبعث للقائهم بعض صغار المماليك ليقطعوا رؤوسهم بحد الركاب». وعزز الرافعي وصف هذا الحال بنقله تنديد الجبرتي ما كان من اهمال المماليك الاستعداد للقتال إذ قال «وليس لأحد من أمراء العساكر همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم القتال قبل دخولهم وقربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل جمع كل من إبراهيم بك ومراد بك عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم».
هزم الفرنسيون المماليك الذين فرّ قادتهم إلى الصعيد وحل الفزع بسكان القاهرة عندما دخلها الفرنسيون. يقول الجبرتي إنه في تلك الليلة خرج معظم أهل مصر لبلاد الصعيد أو الشرق بينما أقام فيها المخاطرون والذين لا يقدرون على الحركة. ثم، وبعدما عاث الفرنسيون فساداً بقتل المصريين وانتهاك حرماتهم وسلب أموالهم وإخراجهم من بيوتهم، ثار المصريون ثورة قمعها نابليون بنيران المدافع. غير أن ثائرة المصريين لم تهدأ طويلاً إذ ثاروا مرة ثانية في القاهرة عندما كان الفرنسيون بقيادة الجنرال كليبر يقاتلون الجيش العثماني في عين شمس في مارس 1800.
أبلى المصريون بلاءً حسناً في إقامة المتاريس والحصون في المدينة ما حدا بكليبر إلى التفكير في تجنب العنف المباشر لإخماد الثورة وفضل أن يستفيد من تعارض المصالح بين عناصر الثورة الأساسية: المصريون والأتراك والمماليك.
وجد كليبر في مراد بك ضالته لأنه، كما يقول الرافعي، «كانت تتوق نفسه بعد ما حل به من الهزائم إلى مصانعتهم، ووقف وقفة الخائف الوجل عندما جردت تركيا حملتها الأخيرة على مصر لإخراج الفرنسيين. لأن مراد بك كان يشعر بأن تركيا إذا فتحت مصر بحد السيف وتمكنت من إخراج الفرنسيين منها، طمحت إلى التخلص من نفوذ المماليك». وقد ذكر الجبرتي أن مراد بك بدأ يمد حبال الود تجاه الفرنسيين منذ أن بدأ الأتراك تجهيز الجيوش لمقاتلتهم. أحجم مراد بك عن القتال مع الأتراك في عين شمس حتى قبل أن يوقع الصلح مع كليبر. وقد ذكر كليبر في مذكراته، بحسب الرافعي، أن مراد بك فضل أن يكتم أمر اتفاقه مع الفرنسيين الذي انعقد في أبريل 1800 ولكنه رغم ذلك أرسل أحد أتباعه إلى القاهرة «ليصرف المماليك عن الثورة ويدعوهم إلى النكوص على أعقابهم».
خلص الاتفاق بين كليبر ومراد بك إلى أن يحكم مراد الصعيد تحت حماية الفرنسيين مقابل خراج يدفعه لهم. وقد بالغ مراد بك في الولاء للفرنسيين إذ أرسل إليهم فور توقيع الاتفاق الهدايا والغلال والمؤن، وسلمهم بعض العثمانيين اللاجئين إليه. بل إنه مضى شوطاً بعيداً في تلك الموالاة المخزية حيث إنه سعى حثيثاً في أن يضم المماليك في القاهرة إلى صفوف الفرنسيين، ولما أعيته الحيلة، يقول الرافعي، «أشار على كليبر بإضرام النار في القاهرة إخماداً للثورة!» وقد روي عن أحد الفرنسيين الذين شهدوا تلك الحوادث قوله «بعد أن تم التوقيع على معاهدة (كليبر – مراد) أرسل لنا مراد بك المؤن وسلم لنا العثمانيين اللاجئين إلى معسكره. وسعى لدى أعوانه في القاهرة لتسليم المدينة. لكنه رأى أن مسعاه لم يؤد إلى نتيجة سريعة فعرض علينا إحراق المدينة وأرسل لنا لهذا الغرض المراكب محملة أحطاباً».
لعله كان بين المصريين الذين داستهم حوافر الخيل الفرنسية من ظلّ ينافح عن مراد بك حتى الساعة الأخيرة، لأنه يعسر عليه تصور أن يكون والي البلاد وقائد الفرسان خائناً. ولكن شهوة السلطان، التي وصفها الغزالي بأنها آخر ما يخرج من صدور الرجال، كفيلة بتفسير أخزى أفعال الرجال وأحقرها. والغفلة عن هذا في حال كحالنا في السودان اليوم هي عين الهلكة!
وكما كانت جبهة محاربة الفرنسيين في مصر مكونة من ثلاث عناصر (المصريين، الأتراك، المماليك)، فإن جبهة محاربة الجنجويد ومن ورائهم الخارج مكونة من عموم السودانيين والإسلاميين والجيش. مسار الحرب في السودان سيحدده اتفاق هذه المكونات على خيارها، فما هي خيارات هذه الجبهة؟.
«يتبع»
د. علي عبد الرحيم