إثيوبيا: لماذا؟
أثار الموقف الأخير الذى اتخذته إثيوبيا بالاتفاق مع ما تسمى جمهورية أرض الصومال امتعاض ورفض أغلب الدول العربية وفى المقدمة منها مصر. ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى أن هذا الاتفاق يعتبر تعديًا صريحًا على حقوق الحكومة الصومالية الشرعية فى مقديشو، والصومال كما نعرف جميعًا عضو فى جامعة الدول العربية.
وخلاصة هذا الاتفاق المزعوم هو سماح ما تسمى جمهورية أرض الصومال لإثيوبيا باستغلال موانئها المطلة على البحر الأحمر، مما يعتبر تعديًا على سيادة الأراضى الصومالية، التى تمثلها الحكومة الشرعية فى مقديشو، وليست الحكومة الانفصالية التى تُطلق على نفسها «أرض الصومال».
من هنا كان الموقف المصرى حاسمًا وحازمًا، إزاء تعدى إثيوبيا على سيادة دولة عربية شقيقة هى الصومال. وبالقطع تلعب مسألة سد النهضة والتعنت الإثيوبى فى هذا الشأن دورًا أساسيًا فى بلورة الموقف المصرى المساند للصومال، والرافض للاتفاق الإثيوبى مع الانفصاليين الصوماليين. لكن هذا الموقف المصرى فى حقيقة الأمر يتفق تمامًا مع وقائع التاريخ وسياسة مصر فى القرن الإفريقى عبر التاريخ، ودعونا نوضح ذلك جليًا لبيان أن الموقف المصرى الآن ليس رد فعل على الوضع الراهن، ومسألة سد النهضة، وإنما يتفق مع حقائق التاريخ والجغرافيا السياسية.
بدايةً ترجع حاجة إثيوبيا إلى منفذ بحرى على البحر الأحمر، لكون إثيوبيا فى الأساس هضبة ليس لها امتداد إلى البحر، لذلك يروى لنا التاريخ مدى حرص الحبشة- إثيوبيا قديمًا- على التوسع شرقًا للسيطرة على منافذ بحرية على البحر الأحمر، من هنا صراعات الحبشة مع ما يعرف الآن بالصومال وجيبوتى وإريتريا، بل واحتلال أجزاء منها عبر التاريخ من أجل إيجاد منفذ على البحر الأحمر.
وتحكم سياسة مصر تجاه القرن الإفريقى تاريخيًا عدة أسس لا تحيد عنها، ربما حتى الآن. يأتى فى مقدمة ذلك الحرص على حرية الملاحة فى جنوب البحر الأحمر وباب المندب، والطريق إلى آسيا، لأن مصر كانت ولا تزال هى المُتحكمة فى الملاحة فى شمال البحر الأحمر.
الأمر الآخر الذى تحرص عليه مصر دائمًا هو سياسة توازن القوى، وعدم الغلبة لقوة ما على مقدرات القرن الإفريقى والمياه الجنوبية. لذلك غالبًا ما كانت تتدخل مصر، سواء سياسيًا وأحيانًا عسكريًا، للحفاظ على هذا التوازن، سواء فى عصر سلاطين المماليك فى مصر، أو حتى فى عصر الخديو إسماعيل.
مبدأ آخر مهم حافظت عليه مصر، بحكم كونها من أكبر الدول الإسلامية، وهو الحفاظ على الوجود والطابع الإسلامى فى القرن الإفريقى، وذلك من خلال دعم ما كانت تسمى «إمارات الطراز»، وهى الإمارات الإسلامية، والتى تمثل الآن معظم أراضى الصومال وجيبوتى وإريتريا، خاصةً مع الهجمات الإثيوبية عليها، وأحيانًا التحالف الحبشى- البرتغالى الاستعمارى على هذه الإمارات الإسلامية.
ومع ذلك كانت مصر، وعبر التاريخ، تحافظ على بقاء باب الدبلوماسية مفتوحًا بينها وبين الحبشة، سواء من أجل الحفاظ على مياه النيل، أو لإحلال السلام فى منطقة القرن الإفريقى، لكن الحبشة فى حقيقة الأمر كانت تميل فى سياستها تجاه مصر نحو العداء، وهو ما سنعرض له بالتفصيل فى المقال المقبل.
د. محمد عفيفي – جريدة الدستور