ما حدث للشعب السوداني في نكسة ديسمبر المشؤومة أشبه بما حدث لصديقي (..)
..قبل خمسة أعوام من الآن..
اواخر العام 2010 أحد أصدقائي المهذبين والمحترمين جداً عندما كنت بجامعة الخرطوم يوما ما في الجامعة شاهدته بإحدى الحفلات (أذكر أنها كانت بساحة تعرف بساحة النشاط بكلية الهندسة) وقد كان يرقص منتشياً مع الراقصين من الطلاب وكانوا يرقصون بطريقة مثيرة للاشمئزاز والغرابة لكنهم كانوا لا يشعرون بأنفسهم مع ايقاع الموسيقى والاجواء حينها وصخب جماهير الطلاب .. فقررت أن أقوم بتصوير صديقي هذا الذي يرقص بطريقة لا يشعر معها بنفسه تنافي سمته وشخصيته المحترمة وعقله النابغ كي أجعله يشاهد هذا الفيديو فيما بعد ويتعجب من نفسه.. وفعلاَ فعلت ذلك وبعد أيام اخرجت له الفيديو واغلقت الصوت وكان يشاهد نفسه يرقص (بدون صوت) بطريقة صدمته وأخجلته ولم يصدقها هو حتى قال مازحاً أن هذا شخص يشبه وليس هو ثم ترجاني أن أقوم بمسح الفيديو.
ما حدث للشعب السوداني في نكسة ديمسبر المشؤومة أشبه بما حدث لصديقي هذا .. خرج ذات يوم كثيرون من هذا الشعب وراء سطوة الهتافات والأشعار والحماس الهائج لا يعرفون ماذا يريدون بالضبط من ( تسقط بس ) وماهو سقوط النظام ؟ هل هو سقوط البشير أم سقوط الدولة أم سقوط ماذا بالضبط وكيف ؟ لا يعرفون من يقودهم وماذا يريد .. لا يعرفون تعقيدات البلاد وتحدياتها ولا سبيلاً لحلها .. فقط هي السكرة والغمرة لاغير .. وأحسب أن أكثرهم قد أفاق منها اليوم بعد أن شاهد مآلات ذلك الحراك المشؤوم الذي طعن في خاصرة الاستقرار الأمني في البلاد واستغله كل من يريد بها الفوضى ويتربص بها بالمرصاد.
في مثل هذا اليوم قبل خمسة أعوام كتبت مقالاً صغيراً ضمن سلسلة مقالات تحت هاشتاق #إلى_أين_نسير موضحاً أن عاقبة هذا الحراك هي الحرب ولا شيء غير الحرب .. لم أكن عرافاً يرجم بالغيب عندما كتبت ذلك ولم اكتبه لأني (كوز) كما هو التفسير المريح للأكثرية اللذين لا يحبون أن يتعبوا أنفسهم قليلاً في التفكير في كلامي .. لكني كتبته لحقيقةٍ لا يعلمها للآن أكثر اللذين كانوا يخرجون حتى من أفاق منهم من السكرة اليوم .. وهي سبب كتابتي لهذا المقال.
قبل خمسة أعوام وقليل من الأسابيع والحراك المشؤوم كان في أوجه كنت في موعد مع صديقي عزيزٍ لي للقاء ضابط رفيع في جهاز الأمن تربطه به علاقة أُسَرية (وقتها كان على رأس إدارة مهمة من إدرات الجهاز) كي نتبادر معه أطراف الحديث، أذكر ذلك اليوم جيداً وشارع المعرض وشارع النيل والشوارع التي مررنا بها ببري الحبيبة حتى وصلنا لمباني الجهاز حيث كانوا مرابطين لا يرجعون إلى بيوتهم .. كان طابع الحديث بيننا عفوياً بغير تكلف وبكل ارتياح وقد شعرت بالصدق والحقيقة فيما يقول واحسب أن صديقي شعر بنفس ما شعرت به خاصةً أنه كان منصفاً دقيقاً فيما يقول بغير مبالغات ولا عواطف ولا تعصب فقد تطرق لنا لاخطاء وقصور النظام في بعض الجوانب حتى في التعامل مع الأحداث وقتها .. تمنيت حينها لو كان معنا في تلك الجلسة أولئك الشباب الذين راحوا ضحايا في قاطرةٍ تسير نحو الهاوية ما دروا عنها شيئاً .. حدثنا عن التعقيدات الأمنية والاثنوغرافية الموجودة بهذه البلاد مما يعطيها خصوصية تجعلها تختلف عن جميع الدول العربية بل عن جميع دول القرن الافريقي وحدثنا عن حجم الاستهداف الأمني الهائل لبلادنا من جهات ودول مختلفة كل منها يرى أمانيه ومطامعه محفورةً في بلادنا ، وعن الصراع الدائم مع الموساد التي تسعى لفعل المستحيل كي تشعل الحرب في بلادنا بُغيةَ تغيير التركيبة الأمنية والاثنية لها لأنها ترى أنها المنبع الأول لتهديد أمنها القومي في افريقيا .. وحدثنا عن تجمع المهنيين وعن طبيعة الشباب الذين يقودون هذه الصفحة ومراهقتهم الفكرية والسياسية وعن قوى الموقعة على اعلان الحرية والتغيير وادمانهم العمالة وأنهم إن استلموا البلاد سيسلمونها تسليم مفتاح لمن يعوث فيها الدمار .. وتطرقنا في الحديث عن الأزمات الاقتصادية التي عزاها للانكماش الاقتصادي العالمي وأذكر أنه قال لا يوجد منظومة سياسية حالياً أقدر من المنظومة السياسية الحاكمة على احكام اقتصاد البلاد في ظل تحدياتها الأمنية والاثنية المعيقة للتنمية والاستقرار و المستنزفة للاقتصاد ، وأن ما أحدثته هذه المنظومة من تنمية اقتصادية في ظل كل هذه التحديات لن تستطيع المنظومات السياسية الأخرى من إحداثه .. هذا كان معنى كلامه وليس بنصه .. استغرقت هذه الجلسة حوالي ساعة فقط بالرغم ما كان فيها من دردشة واطراف حديث جانبي بعيداً عن الراهن .. خرجت من هذه الجلسة وعزمت أن أسعى عبر الكتابة لتسليط الضوء على جوانب مظلمة في مسير ومآل ذاك الحراك المشؤوم ولكن للأسف كنت عند الأكثر عبارة عن شخص فاقد للانسانية وحالة غريبة تستحق الدراسة.
المؤسف أنه للآن لم يستوعب الدرس الكثير ويظنون أن الأزمة بدأها البشير بتكوين قوات الدعم السريع ، وهذه نظرة سطحية جداً للمشكلة .. ليس هناك اشكال في انشاء قوات لها وضعية خاصة فهذا موجود في كثير من الدول ومنها دول عظمى .. ولكن الداء بدأ عندما بدأت السيولة الأمنية والفوضى التي خلقها ذلك الحراك المشؤوم بعد 11 ابريل 2019 ومطالبة قحت (بسلاح ضغط الشارع والاعتصام) بأن تحكم البلاد هي ومن ثم طالبت بحل هيئة العمليات واقالة بعض الضباط من الجيش والامن والشرطة وكان منهم ذاك الضابط الرفيع الذي كنا قد التقيناه حيث كان في أول قوائم الذين أحيلوا للمعاش .. فأصبحت البلاد مرتعاً للمخابرات الأجنبية تلهو وتمرح كيف تشاء وهنا فقط رفع حميدتي رأسه واستعلى واستعظمت مطامعه واستعد للمواجهة مع الجيش بحماية المخابرات الاماراتية التي وجدت بلاداً قُطِّعت أرسانها ودُفِنت أوتادها فأصحبت كلأً مباحاً .. ألا فلعنة الله على من طعن بلادنا في خاصرة أمنها وكل من شارك في ذلك بعلم .. هذه الحرب اليوم ستعيد بناء كل شيء باذن الله من جديد .. ولكن علينا قبل ذلك أن نعي هذا الدرس .. ونجتمع مهما اختلفنا على الدفاع عن بلادنا من تربص العملاء وبغاة التدمير والخراب .. ومهما اختلفنا لابد أن نجتمع على احترام وحماية أجهزتنا الأمنية من الفوضى وعبث السياسيين تحت أي مسمى وهتافات وشعاراتٍ كانت .. فشعبٌ لا يقف سنداً ودفاعاً عن قوات أمنه ودفاعه وحمايته لا يستحق هذه البلاد ولا أن يعيش فيها.
المقداد خالد