رأي ومقالات

أمة لن تموت


أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – ظهرت لتعيش وتستمر، ولا تموت إلا حين لن تكون لمن على الأرض يومها قيمة واعتبار لأن تبقى الحياة مستمرة لهم، وعليهم ستقوم القيامة حينها. لكن الحقيقة المهمة الواجب تذكرها دوماً، أن هذه الأمة لن تموت، مهما أصابتها من مصائب وكوارث ونوازل، وشواهد التاريخ أكثر مما يمكن حصرها ها هنا في هذه المساحة المحدودة.

الأمة كانت تحت قيادة واحدة منذ قيام دولة الإسلام بالمدينة المنورة وقائدها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حتى سقوط دولة بني أمية العظيمة عام 132 للهجرة. إذ بعد ذلك وعلى رغم قيام دولة بني العباس، أكبر الإمبراطوريات التي كانت في تلك الفترة، ظهرت بجانبها دول وممالك إسلامية لها شخصيتها الاعتبارية، وكانت تدير شؤونها بنفسها، وإن كانت اسمياً توالي الخليفة العباسي، حفاظاً على الرابطة التي تربط الأمة ببعضها البعض، رغم خلافات ونزاعات بين تلك الممالك بعضها البعض، وأحياناً مع الخليفة نفسه، لكن الرابط كان باقياً، وكان ذلك ربما كلمة السر في بقاء هذه الأمة وصمودها أمام النوازل المتنوعة على مدار تاريخها القديم. الحروب الصليبية المتتالية، ثم وباء المغول، وصولاً إلى الاستعمار الغربي.. كل تلك الأوبئة أصابت الأمة وشتت كلمتها ومزقت شملها وفرقت بين أبنائها، لكنها لم تقض عليها بشكل تام ولم تندثر بفضل الله. نعم، أصابت الأمة الكثير الكثير من تلك الأوبئة البشرية، لكنها صمدت بالنهاية حتى يوم الناس هذا، والتي لم يكتف أعداؤها من الاستمرار في الكيد لها، على رغم كل ضعفها وهوانها بين الأمم الحاضرة.

تفكيك الأمة

لن نرجع إلى التاريخ القديم لنضرب أمثلة، لكن يكفينا الرجوع فقط إلى قرن من الزمان ليس أكثر، لنجد كيف مزق الاستعمار الغربي الذي هو امتداد للحروب الصليبية التي لم تقف ولم تنته كما قال اللنبي يوم أن دخل القدس ووقف على قبر صلاح الدين قائلاً» اليوم انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين !

لكن الواقع أنها لم تنته، فالاستعمار أو الاستدمار الغربي قطّع أوصال هذه الأمة، وضرب أمة العرب تحديداً، باعتبارها القاطرة التي تقود الأمة، فالإسلام قوي بقوة العرب، ويضعف بضعفهم. ولعل هذا هو سبب إصرار الاستعمار الغربي على تقطيع أمة العرب إلى ممالك ودويلات متناحرة مختلفة، لتسهل عليه السيطرة بعد ذلك، وهو ما يحدث الآن تماماً.

لم يكتف الاستدمار الغربي بذلك، بل قطع ما بين أمة العرب وأمم المسلمين من علاقات وأواصر. مسلمو الترك في جهة، والفرس في جهة أخرى، ومثلهما مسلمو السند والهند والصين وبقية مسلمي العالم. لا شيء يجمع بين مسلمي العالم اليوم سوى بعض شرائع دينية، لكن مع ذلك، تفرقهم واختلافهم أسهل ما يمكن حدوثه، فإن الجغرافيا والقومية لعبت دوراً في تأخير مكانة وقيمة الدين في سلم أولويات كل شعب مسلم أينما كان ! المسلم في موقع جغرافي ما قد يرى مشاكل ومآسي ومصائب مسلمي دولة ما في بقعة بعيدة ويستشعر بها، لكن تفاعله معها غالباً في حدود معينة، إذ تقف القومية، والحدود المصطنعة، والاعتبارات السياسية وغيرها، حواجز لا يمكن عبورها بالسهولة المتصورة.

دروس الأفغان والبوسنة

ما جرى لمسلمي بلاد الأفغان من كوارث ومجازر وفواجع لعشر سنوات منذ عام 80 على يد أكبر امبراطورية ملحدة في التاريخ يومذاك، الاتحاد السوفيتي، حتى انسحابها مهزومة مدحورة أواخر 89، ومن ثم تعرضها لاحتلال أمريكي غربي غاشم مجرم مرة أخرى في 2001 والكوارث التي حلت بمسلمي أفغانستان على يد الأمريكان حتى خروجهم مدحورين مهزومين في قائظ 2021، أمر يدعو للتأمل.

إن شعباً مسلماً فقيراً قاوم وصمد أمام أعتى قوتين ظهرتا في التاريخ، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وقدم مئات الألوف من الشهداء، إنما دليل على حقيقة ما نقول، هي أن هذه الأمة لن تموت، مهما بلغت قوة ووحشية معسكرات الكفر والضلال ضدها. خرجت أفغانستان من تلك المحن، أقوى وأصلب وأثبت على عقيدتها ودينها مما كانت قبل ذلك، وها هي اليوم تخطو خطواتها الجادة في التنمية والبناء، لتؤكد إلى جانب الحقيقة الأولى التي ذكرناها آنفاً، أن ما يؤخذ بالقوة لا يمكن أن يُسترد إلا بالقوة. فالعدو المتسلح بالحديد والنار، لا ولن يفهم لغة الدبلوماسية والسياسة واللين، وإن زعم وادّعى ذلك في دعاياته، فالوقائع تثبت العكس من ذلك. وهذا ما فهمه الأفغان منذ البداية، فكان لهم ما أرادوا بفضل من الله وتوفيق وسداد. وهو درس يحتاج لكثير تأمل وتدبّر.

ما جرى أيضاً من كوارث ومآسٍ ضد مسلمي البوسنة والهرسك بداية التسعينات على أيد الصرب الأرثوذكس، لتقشعر منه الأبدان، على رغم حداثة معرفتهم بالإسلام بعد عقود من حكم شيوعي ملحد. فما إن حدثت تطورات في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 92 وخروج دول أوروبا الشرقية عن الفلك السوفيتي، كان للمسلمين ذلك التطلع والحق أيضاً، لكن الغرب الصليبي لم يقبل ظهور دولة مسلمة في عمق أوروبا، ووقع ما وقع من مذابح ومآس لا زالت في أذهان من هم في سن الخمسين اليوم.

لكن مع ذلك كله، شاء الله أن تقوم دولة البوسنة والهرسك بفضل الله ثم صمود أهلها ومقاومتهم بكل ما أوتوا من قوة، ثم يشاء الله بعد ذلك أن يختلف الضالون بين بعضهم البعض، لتقوم الولايات المتحدة بدور حاسم في وقف الإجرام الصربي المدعوم روسيا حينذاك، لتقوم للمسلمين قائمة في عمق أوروبا المسيحية، ولم تنطفئ تلك الجذوة المؤمنة رغم سنوات القمع الشيوعي، ولم يستطع الضالون تصفية مسلمي هذه البلاد. هذا درس ثان يحتاج لكثير تأمل وتدبر أيضاً.

فلسطين لن تضيع

من بلاد الأفغان والبوسنة والهرسك، ننتقل إلى المنطقة الملتهبة حالياً، والتي لا زالت محاولات المغضوب عليهم منذ عام 48 في فلسطين ضد مسلمي هذه الديار مستمرة لتصفية ومحو الإسلام والمسلمين، ولا زالت قوى الغرب وبعض الشرق مستمرة في دعم الإجرام الصهيوني وبكل وحشية.

إن استرداد الحقوق لا يمكن تحقيقه بالمفاوضات العبثية، والمؤتمرات الدولية الفارغة، والوعود الكاذبة، وإن بضمانات دولية، وما طوفان الأقصى المبارك، إلا نتيجة هضم جيد للمقاومة الفلسطينية في غزة لتلك التجارب السابقة في بلاد الأفغان والبوسنة مع الأعداء، ومن قبلهم دروس متنوعة من تاريخ هذه الأمة. المعسكر الكافر لا يفهم إلا لغة القوة. وما دعوة القرآن لأهله بإعداد القوة قدر المستطاع، إلا لأجل ترهيب دائم مستمر لمعسكر الكفر، كيلا يتجرأ ويحقق مراده.

ما ضاعت فلسطين قطعة قطعة إلا حين تم افساح المجال للعبث المتمثل في مفاوضات ولقاءات علنية وسرية، ومعاهدات سلام كاذبة خادعة، وخيانات لا أول لها ولا آخر، استفاد منها من استفاد، حتى ضاعت جل فلسطين وما بقيت غير غزة، شوكة حادة في حلق المغضوب عليهم ومن معهم من الغرب والشرق.

هذه الشوكة، أراد المعسكر الكافر مع معسكرات الوثن والصليب ومنافقي العرب، كسرها ومحوها من الوجود، لأنها سبب بقاء فلسطين عربية مسلمة، ولولا فضل الله ثم فئة مؤمنة لا تهتم بمن خالفها وخانها، لما كان هناك أرض تسمى فلسطين اليوم. وهذا ما يفسر كثرة التضحيات المادية والبشرية التي تقدمها غزة، وهذا ما يدعو في الوقت نفسه إلى عدم التهويل من أرقام الشهداء وبقية التضحيات.

إن مثل هذه المعارك المفصلية التاريخية، لابد وأن تكون الأثمان باهظة، لتكون النتائج باهرة بعد حين من الدهر، طال أم قصر بإذن الله. فهكذا هي قوانين أو سنن التدافع. ولقد أثبتت الأيام كذب وخداع كل العمليات والمفاوضات الوهمية لأجل سلام زائف غير عادل وغير دائم، بين معسكر كافر محتل لا يرضى بغير فلسطين خالية من المسلمين، وآخر مؤمن يرى أنه مؤتمن على مقدسات للمسلمين كافة، حتى وإن لم يتدافع ويتحرك المسلمون جميعاً أو متفرقين للحفاظ عليها وحمايتها، وبالتالي يرى المعسكر المؤمن أن واجبه المقدس هو الدفاع عنها بالروح والدم، فليس هناك ما هو أغلى منهما، وبهما تستقيم الأمور والحياة. وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، كما جاء عن الصديق رضي الله عنه.

د. عبدالله العمادي – الشرق القطرية
20220530 1653924092 39