المصالح الأمريكية في المنطقة ..هل حانت لحظة الحقيقة؟
منذ الحرب العالمية الثانية، اندفعت الولايات المتحدة لتعزيز مصالحها في الشرق الأوسط عبر ثلاثة محاور أولها ضمان تدفق النفط من الخليج وضمان أمن إسرائيل والحد من نفوذ الكتلة السوفييتية آنذاك، وتم لاحقًا إضافة مكافحة الإرهاب والحد من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وفق ما هو منشور في أكثر من موقع أمريكي مثل: (https://world101.cfr.org/) كما أن العلاقة مع إسرائيل تعود لعام 1948 حينما اعترف الرئيس هاري ترومان بعد (11) دقيقة من إعلان قيام دولة إسرائيل، حيث زعم وقتها أنه كان ملزمًا من الناحية الأخلاقية بتوفير ملاذ آمن لليهود الأوروبيين الذين عانوا من فظائع ألمانيا الهتلرية والهولوكوست (التي يعيدون إنتاجاها الآن في غزة وبأسلحة أمريكية) وكذلك وكما تشير بعض الأدبيات الأمريكية، أنه وجد في ذلك فرصة مواتية لضمان أصوات الناخبين اليهود في الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1948 (وما أشبه اليوم بالبارحة) ومن هنا انطلقت إحدى أكبر مآسي الشرق الأوسط في القرن العشرين (مع عدم إغفال الدور البريطاني بكل تجلياته الإمبريالية آنذاك بطبيعة الحال والمآل).
والمتتبع لتاريخ المنطقة وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، لعله سيجد كم هي مكلفة ودموية هذه العلاقة، حيث دفعت شعوب المنطقة أثمانًا باهظةً لتطبيق تلك السياسات (حربًا أو سلامًا) وأفضت إلى غزو دول عربية شملت العراق وسوريا وتفتيتها وفق محاصصة طائفية يدفع ثمنها العراق ما بعد النظام السابق لغاية اليوم في حين تعرضت سوريا لأكبر هجمة إرهابية شنت بعد الحرب العالمية الثانية على شعب أعزل لم يقم بأي عمل عدائي ضد الولايات المتحدة! وجرى تقسيم السودان والدفع بليبيا إلى خانة عدم الاستقرار والفوضى والأعتى من ذلك غرس نظام عنصري ودموي في قلب الأمة العربية تدفع ضريبة وجوده منذ 1948عام.
من الواضح أن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة شائكة ومعقدة ولا يمكن الاستخفاف بها. عسكريا، فإن ما نسبته 41% من مبيعات الأسلحة الأمريكية قد ذهبت لدول المنطقة بنهاية عام 2022 وفق مقال نشرته صحيفة القدس العربي بتاريخ 18 مارس 2023 علمًا أن الصادرات العسكرية الأمريكية للخارج ارتفعت خلال عام 2022 لتصل ما قيمته 205.6 مليار دولار مرتفعا بنسبة 49%. في السياق ذاته أصبحت الولايات المتحدة المزود الرئيسي تقريبًا لإمدادات السلاح للعديد من الدول العربية خاصة الخليجية، وتبرر الأوساط الأمريكية الرسمية هذه الصفقات بحجة أنهم إذا لم يوافقوا على تمريرها، فإن غيرهم سيبيعها لهذه الدول، في إشارة إلى روسيا والصين، وسمحت أن تقوم شركة مثل: (CyberPoint) الأمريكية بالتعاون مع إحدى الدول الخليجية لتطوير منظومة تجسسية استهدفت النشطاء والشخصيات السياسية والإعلامية حول العالم وفق ما نشره موقع (https://warontherocks.com/) بتاريخ 11 أغسطس 2023. في ذات الوقت هناك ما يقرب من 30 ألف جندي أمريكي في المنطقة إلى جانب العديد من القواعد العسكرية الأمريكية.
كما تتزايد الآن النبرة بأن هذه الصفقات تسهم في إبعاد النفوذ العسكري الصيني والروسي عن المنطقة وهو طرح يشبه الذرائع التي سيقت إبان الحرب الباردة حول دعم بعض هذه الدول عسكريًا ردعًا للنفوذ السوفييتي قبل أن تلاحقهم مصائر الامبراطوريات وتضرب مآلات التاريخ سؤددهم.
على المسار ذاته، تجمع الولايات المتحدة ودول المنطقة مصالح اقتصادية وتجارية هائلة، حيث بلغ التبادل التجاري بحسب ما نشر في موقع (سكاي نيوز عربية) بتاريخ 20 أكتوبر 2023 ما قيمته 121 مليار دولار. على الـجانب التعليـمي في العام الدراسي 2022/ 2023 كان هناك نحو مليون طالب أجنبي في الولايات المتحدة، 10% منهم من دول الشرق الأوسط وإفريقيا بحسب موقع (https://www.statista.com/).
تشير المعطيات والوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أن هذه العلاقات حيوية وعميقة وحساسة رغم كل التقلبات السياسية والعسكرية والحروب المتتالية التي دارت رحاها على خرائط الشرق الأوسط ولم تفض إلا إلى الخراب والتفتيت والتقسيم. ويؤسس هذا العبور على مشهد المصالح الأمريكية في المنطقة إلى طرح مزيد من الأسئلة حول الخيارات المتاحة لهذه العلاقات، ويعكس وجود مساحات براغماتية ومصالح كبرى بين دول المنطقة والولايات المتحدة، ولعله من المخل أن تختزل مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة في البيت الأبيض كل هذا الحراك الضخم في الشرق الأوسط من أجل ضمان أمن إسرائيل بهذه الطريقة المجحفة التي تفقدها كل مصداقية وقبول في المنطقة (وحتى في الداخل الأمريكي مؤخرًا) في ظل تمترسها وراء كيان لا يتردد في شن حروب الإبادة وتجاهل كافة الأعراف الإنسانية والدولية والقانونية بطريقة لم نر ما يماثلها من بشاعة وتنكيل إلا في الهولوكوست ضد اليهود أنفسهم أو ما اقترفته داعش من فظائع في حق الشعب العراقي والسوري.
وحري بالولايات المتحدة في خضم كل هذه المصالح المهمة والشائكة أن تعيد النظر في تعاطيها مع قضايا المنطقة قبل أن تفقد ما تبقى لها من مصداقية وتقدير على المستوى الشعبي العربي والشرق الأوسطي، فإسقاط المساعدات الغذائية على الغزاويين جوًا من ناحية ومنح إسرائيل أكثر الأسلحة فتكًا وقتلًا في ذات الوقت لإبادة الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يكون سلوك دولة عظمى تريد أن تقدم للعالم نموذجًا مختلفًا في السلوك السياسي والحضاري، لاسيما وأن العالم العربي قدم المبادرات تلوى المبادرات السياسية لتحقيق سلام عادل ودائم مع القيادة الإسرائيلية وتغيير مصير الشرق الوسط نحو السلام والازدهار ولكن من الواضح أن الآخر «لا يرى» في السلام مع الطرف الفلسطيني نهاية لهذه المأساة المستعرة منذ 75 عاما، بل لعله يرى في السلام مقبرة لطموحاته وأوهامه.
ويبقى السؤال مشرعًا باتساع أفق الأماني والتفاؤل (حتى وإن بدا ساذجًا) إلى متى ستقف الولايات المتحدة داعمة لهذا الوضع البائس في المنطقة؟ أولم يئن أن تقوم الولايات المتحدة بدورها الحقيقي كدولة عظمى يرى العالم أن بيدها مفاتيح الحل والعقد!، وكم من الضحايا والشهداء يجب أن يلقوا حتفهم في هذا الصراع من الطرفين؟ قبل أن تقتنع واشنطن أنه لا مناص من السلام ومن الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، كي يتسنى لأجيال المستقبل حياة كريمة ومستقبلا لا ينزل على رؤوسهم بقنابل فوسفورية من الأف – 18 الأمريكية الصنع وتحكمهم في أيديولوجيات العنصرية والإقصاء ومجرمي الحروب ويعبرون سنوات الصبا مشتعلين غضبًا للانتقام من قتلة أهلهم وذويهم. ولعل هذه اللحظة التاريخية الفارقة بعد السابع من أكتوبر فرصة تاريخية أيضًا للدفع بالسلام والاستقرار ووقف شلالات الدم والدمار.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني – صحيفة عمان