عن «الحلو مر»
كتبت، منذ أيام، عن الحرب فى السودان بين السودانيين، وكيف تسببت فى غياب أحد تفاصيل الحياة، ولاختفاء تفاصيل الحياة دلالات، فكما تدمر الحرب البلد، تمحو معها تفاصيل حياة البشر. ومن بين تفاصيل البشر فى السودان اختفى مشروب الحلو مر، الذى هو أحد أهم وأشهر المشروبات بمائدة الإفطار السودانية على مر العصور.
لى صديق توثقت وتعمقت علاقتى به عبر حرصه على نقاش ما أكتب، والإشارة لى إلى موضوعات وقضايا تستحق الكتابة. والحقيقة أشعر نحوه بالامتنان لأنه يعطينى الإحساس بأن هناك مَن يهتم ويتابع. صديقى إسحق غرباوى، هذا اسمه، وهو رجل صناعة، تابع قراءة الموضوع، ولم يجد فيه شرحًا لمشروب «الحلو مر». والحقيقة أنه مُحِقّ، فجزء من وظيفة الكاتب ألّا يفترض أن القارئ يعلم ما فى فكره، وأساس احترام الكاتب للقارئ أن يوثق ما يكتب، ويعلم ماذا يقول أو حتى ماذا «ينقل». لذلك أصحح الخلل الذى وقعت فيه بالتعريف بالمشروب السودانى الأشهر فى رمضان، والذى غيّبته الحرب، كنموذج لأحد تفاصيل الحياة التى تضيع تحت وابل القصف والقتل المتبادل بين سودانيين و… سودانيين!.
«الحلو مر» ليس مجرد مشروب، بل جزء من ثقافة شعبية وطقس اجتماعى، هو مما لا يختلف عليه السودانيون، هو ظاهرة اجتماعية تكافلية متميزة، تُعتبر صناعته حدثًا اجتماعيًّا له طقوسه.
صناعته كثيرة التفاصيل، يعتقد كثيرون أن عمره آلاف السنين، البعض قال خمسة، وظهر فى الممالك النوبية القديمة. بعض الأساطير تشير إلى أن وصفة الحلو مر عن آلهة النوبيين.
تبدأ صناعته بوضع الذرة فى جوالات من «الخيش»، فى مناطق باردة نسبيًّا، وريّها بانتظام لحين نمو الذرة، وهى مرحلة تُعرف شعبيًّا بـ«الزرّيعة». تُجفّف الذرة، وتُطحن، ويُضاف دقيق الذرة، وتُخلط بكميات من البهارات المطحونة «الزنجبيل والقرفة والحلبة والكمون»، وهو ما يضيف لذعة محببة.
يتمّ تخمير الخليط يومًا كاملًا. مرحلة «العواسة» يتم فيها طهى الخليط فى رقائق جاهزة للتعبئة، والتحضير بنقعه فى الماء لساعات، وتصفيته، وشربه، بعد إضافة الثلج والسكر.
ليس الأكثر أهمية هنا طريقة إعداده، لكن النظر إليه باعتباره ظاهرة اجتماعية تكافلية، حيث تجتمع أكثر من عشرين امرأة فى بيت واحد لما يسمى (النفير)، وتقوم صاحبة المنزل بإعداد الطعام والشاى لضيافة النساء.
تستغرق عواسة الحلو مر أكثر من خمس ساعات لتوفير أكبر قدر منه لتوزيعه على بنات السيدة المتزوجات والأقارب وأيضًا المغتربين فى دول المهجر. ترتفع أصوات الضحك والحكى فى البيت أثناء إعداده وكأنه نوع من التواصل الاجتماعى، الذى يقوى أواصر الصلات بين الجارات فى الحى. وما ينتهى اليوم إلا ويتكرر من جديد فى بيت آخر.
من قبل حلول شهر رمضان، كانت تحتشد صالة المغادرة فى «مطار الخرطوم» بصناديق معبّأة بـ«الحلو مر»، الذى يجوب الأرض لتحلية موائد السودانيين فى الغربة. والآن غاب الحلو، وبقى المر.
عبداللطيف المناوي – المصري اليوم