تحقيقات وتقارير

الموسيقى.. لغة الإنسان الأولى

علاقتنا اليومية بالموسيقى تجعلها سلعة استهلاكية، نأخذها في كثير من الأحيان كأمر مسلم به، ويشهد هذا الكتاب وعنوانه «الموسيقى والعقل.. ماذا يحدث عندما نستمع للموسيقى؟» لميشيل روشون، على الارتباط الوثيق بين الفن والعلم، والذي يعود تاريخه إلى بداية الإنسانية، فالثقافة العلمية تظهر لنا مرة أخرى أن الموسيقى تشكل جزءاً من الثقافة بشكل عام، ومع ذلك فغالباً لا نقر بقيمتها في مجتمعنا بشكل صحيح.

إن الضوء الذي يلقيه العلم على أصول الموسيقى وعلى طريقة تأثيرها فينا، وعلى طبيعتها الفيزيائية، وعلى العمل الاستكشافي لتطويرها، يثبت أن لها مساهمة كبيرة في ثقافتنا، ستكتشف كيف يعمل العقل لإدراك الموسيقى أو عزفها، وتستخدم الموسيقى لنفهم بشكل أفضل كيف دخل الذكاء الاصطناعي إلى عالم الموسيقى، وكيف يمكن للباحثين أن يستهدفوا أبحاث العلاج بالموسيقى بدقة أكبر.يقول المؤلف: «أتساءل بشكل مستمر عن ألغاز الموسيقى كعالم في وظائف الأعضاء، وموسيقي وصحفي في المجالين العلمي والطبي، لماذا تؤثر الموسيقى بقوة فيّ مثلما تؤثر فيك؟ لقد قطع العلم خطوات عملاقة على مدى العقود القليلة الماضية ويقدم لنا تصوراً دقيقاً بشكل متزايد عن مدى تأثرنا بالموسيقى».
تناول الكتاب الصادر بترجمة أماني مصطفى، أيضاً سبب افتتان العديد من الأطباء والباحثين بالموسيقى، فعلى الرغم من أن هذا الشغف قديم للغاية، وربما تجاوز الألف عام، فإنه لا يزال حاضراً، ويثير رغبة العلماء اليوم في فهم الدور الذي يلعبه تناغم الأصوات في تطور البشرية بالطريقة نفسها التي يؤثر بها في عقولنا.

يقول المؤلف: «أخبرتني إحدى عازفات التشيللو ذات مرة، أنها ظلت تعزف في حفلات مختلفة أثناء فترة حملها، حتى أنجبت، كانت تجربة فريدة بالنسبة لها، أن تستند الآلة مباشرة إلى بطنها، وأشارت إلى أن الطفل كان يتفاعل بقوة مع الموسيقى، اعتماداً على إيقاع اللحن، وبالتالي الأسلوب، كانت موسيقى باخ هي التي أثارت أولى حركات طفلها الذي لم يولد بعد».
كما أثرت الموسيقى في الجنين ببطن والدته، استطاعت أيضاً أن تغير تاريخ الإنسانية وتشكله، فالموسيقى هي اللغة البشرية الأولى، ويؤكد الكاتب ما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه: «إن الحياة دون موسيقى تكون بكل بساطة عبارة عن خدعة وشقاء ومنفى».يوضح المؤلف أن الكائنات الحية الأولى استخدمت عدة وسائل اتصال للبقاء على قيد الحياة، فولادة الموسيقى هي نتيجة مسار تطوري طويل، وبتواضع يجب علينا أن نقبل جزءاً من الدهشة أمام العبقرية الإبداعية للإنسان العاقل، الذي عرف كيفية التقاط وفهم واستغلال التناغم الصوتي للطبيعة.

يرى أن دماغنا مهيأ بشكل عجيب ومجهز لاستيعاب الفروق الدقيقة اللانهائية في الموسيقى للسماح لنا بتذوق محتواها اللحني والتناغمي والإيقاعي، لنقل كل شحنتها العاطفية المهمة لنا، ووعينا هو بطريقة ما قائد الأوركسترا، الذي يوحد جميع مناطق دماغنا التي تنقل الموسيقى القادمة إلى آذاننا بلا كلل.

الموسيقى هي أيضاً محفز معقد جداً، وغني لدرجة أنه يتطلب عملاً كبيراً من دماغنا، لفصل جميع المكونات لإعادة تركيبها بعد ذلك بشكل مستمر، وهذا دليل رائع على فعالية نشاطه الكهربائي، وهذا في حد ذاته ظاهرة غير عادية.
يشير المؤلف إلى أن الموسيقى ليست لغزاً، لكنها اكتشاف متجدد باستمرار، وبما أن الموسيقى تؤثر في مناطق عديدة من الدماغ فإنها لا يمكنها إلا أن تغيرنا، إن السيمفونية الموجود في أدمغتنا هي إحدى عجائب الطبيعة العظيمة.يقدم المؤلف في هذا الكتاب رحلة في الدماغ من خلال الموسيقى، فخلال أحد العروض الموسيقية المعاصرة غير المتجانسة والحادة إلى حد ما، أسرت له امرأة بأن هذا المقطع أعاد إلى ذهنها ذكريات اللحظات الحميمية الرقيقة التي عاشتها وهي تؤرجح طفلها، ومهما كان التفسير الفسيولوجي العصبي، الذي يمكن للمرء أن يقدمه لفهم رد الفعل هذا، فإن هذه الشهادة تثبت مدى تعقيد الدماغ والطبيعة البشرية، فالموسيقى غالباً ما تجعلنا ننفعل بطرق غير متوقعة، فهي لا تعتمد على إدراكنا وحسب، بل تعتمد أيضاً على ذكرياتنا وتجاربنا الأكثر حميمية.

5899907

صحيفة الخليج