أقرع: أرحام الرجال والجيش تصيبني بالقلق
أشعر بعدم الارتياح بعض الشيء إزاء كليشيه أن الجنجويد ولدوا من “رحم” القوات المسلحة.
في الوضع الراهن، تشير هذه العبارة المتداولة إلى وجود مؤسسة جيش ديمقراطية إلى حد ما، حيث يتم اتخاذ القرارات داخلها بمشاركة واسعة من أعضائها.
لكن القوات المسلحة بعيدة كل البعد عن هذه الديمقراطية، بل هي عكسها. وفي هذا لا يختلف الجيش السوداني عن أي جيش في العالم.
القوات المسلحة مؤسسة شديدة الهرمية تنساب فيها القرارات من أعلى إلى أسفل وما علي الأدني سوي التنفيذ.
في هذه المؤسسة، يتم اتخاذ القرارات الأكثر أهمية دائمًا من قبل عدد قليل جدًا من الرجال، وأحيانًا بواسطة رجل أو اثنين أو ثلاثة وما علي الباقين إلا التنفيذ. وما دام الرجال قادرين علي الحمل فلا شك أنهم قادرين علي اقتسامه في ثلاث أرحام.
إذا كان التوصيف أعلاه لهرمية القوات المسلحة صحيحا، فإن الإستنتاج الصحيح هو أن الجنجويد ولدوا من “رحم” الرئيس البشير، وربما رحمين ذكوريين آخرين معه . وفي الحقيقة فان البشير ولد الجنجويد من رحمه لحماية خلفيته من تمرد الجيش عليه وسماهم حمايتي ولم يسمهم “حماية الجيش”
وهذا يعني ببساطة أن هذه الكليشيه – عن ميلاد الجنجويد من رحم الجيش – غير دقيق ومضلل بشكل خطير لأن أكثر من 99 في المائة من أفراد القوات المسلحة لم يتم استشارتهم قط في قرار السفاح والحمل والولادة.
وفي الحقيقة هناك عدد كبير من الأدلة التي تشير إلى أن ضباط الجيش كانوا ضد طفل الجنجويد. ورفض الجيش ضم الجنجويد إلى صفوفه مما اضطر الرئيس البشير إلى وضعهم تحت مظلة جهاز الأمن.
وهذا لا يعني أن الجيش مؤسسة خالية من العيوب والمسؤلية عما حدث في تاريخ السودان ولكننا نهدف إلي تعقيد التبسيطات المخلة.
وتظل القوات المسلحة مؤسسة شديدة الأهمية لا تقوم دولة في الراهن من غيرها. ويظل الهدف الدائم هو إصلاحها ومأسستها وتحجيم نزوعها القمعي وليس حرقها الذي يجعل البلد فريسة سهلة للعدوان الأجنبي وجرم العصابات الداخلية.
الكثير من أصحاب النية الحسنة لا يدركون ديالكتيكية الجيش. فهو من ناحية حامي الطبقة الحاكمة واحيانا كابح الحريات المدنية ومن ناحية أخري هو حامي الحدود وضامن الأمن اليومي الذي يسمح بانسياب الحياة العادية ليذهب الأطفال للمدارس وتنام الأسر في أمان من عسف العصابات والمجرمين العاديين والميليشيات.
أحيانا يبرز وجه الجيش القامع ويهيمن واحيانا يظهر وجهه الحامي. ومن لا يعي الإزدواجية الديالكتيكية للجيش ويختزله في موقف دوغمائى عقائدي جامد ثابت لا يتغير هو كائن لا يعي حركة الواقع وهذا يجعله مكشوف للتموقع الخاطئ إما بعبادة الجيش في كل الظروف أو شيطنته في كل الظروف وكلا الموقفين خاطئ.
في شؤون الإجتماع البشري لا توجد إجابات صمدية ثابتة. صحة الإجابة دائما سياقية أي إنها تعتمد علي السياق. والموقف الذي يصح في سياق قد يصير كارثة في سياق آخر.
دعونا نفكر قليلا قبل اجترار الكليشيهات والمعلبات الجاهزة المعتتة التي تلغي التفكير لصالح الكسب السياسي.
معتصم اقرع