عادل عسوم: الحارة مامرقت
عادة سودانية قديمة جدا، لعلها اندثرت الآن في المدن، لكنها باقية في بعض الأرياف، ولا أعلم هل ستكون كذلك بعد هذه الحرب التي أتتنا بها قحط وحليفهم الدعم السريع أم لا.
أحداث هذا اليوم ظلت منقوشة في الذاكرة، ولاغرو أن احداث الطفولة كالنقش في الحجر.
الحاره ما مرقت
ست الدوكة ما وقعت
قشاية قشاية
ست الدوكة نساية
كبريتة كبريتة
ست الدوكة عفريتة
ليمونة ليمونة
ست الدوكة مجنونة”
ويقصد بست الدوكة المرأة التي تقوم بال(عواسة) وتحضير الطعام. وعادة يتخير الأطفال المنازل التي يتوقعون أن يجدوا فيها مالايجدوه في البيوت الأخرى.
انها عادة يحتفل بها السودانيون منذ القدم وموعدها الخميس الأخير من شهر رمضان، يجعلونه موسماً للصدقات على أرواح الموتى من الأقارب، ويعرف هذا اليوم بيوم (الرحمتات)، وهو اسم من مقطعين (الرحمة- تأتي)، ويسمى أيضا ب(عشى الميتين)، وتعقبه الجمعة الأخيرة من الشهر الفضيل ويسمونها بـالجمعة اليتيمة.
في هذا اليوم تخرج الأسر الصدقة ترحما على الأموات من الأسرة، فتقدم للأطفال طعاما أو مالا.
خلال الستينات والسبعينات عندما كنا أطفالا ويفع؛ كنا نخرج في يوم الحارة بتلقائية محببة لنجوب غالب بيوت القرية، فتتلقانا أمهاتنا وخالاتنا وحبوباتنا بكل بشر ورحابة صدر، فنطعم من أيديهن الطاهرات ثريدا وقراريص دون بخل او إستنكاف منهن لإخراج كل شهيّ وطيب من الطعام، وكانت نوعية الطعام التي نحظى بها (الفتة)، وهي مكونة من كسرة الذرة الرفيعة حيث يقطع عليها الخبز (الرغيف)، ثم يكلل الصحن بالأرز وتنثر فوقه قطع اللحم، تنادينا ست البيت بعد مقاطع واحتشاد منا بهتاف الحارة، وكنا نستدل أحيانا مسمى ست الدوكة باسم ست البيت التي تصنع الطعام، مما يجعل ذلك النساء يغدقن علينا أكثر، ثم يقدم لنا الحلومر البارد، وهو شراب محلي اشتهر به السودانيون في رمضان.
البعض يرى هذه العادة شبيهة بعادة (القرقيعان) أو (القرنقشوه) في بلدان الخليج العربي وتركيا وبعض بلاد اسلامية أخرى, لكنني اختلف مع هذا الرأي لسببين:
الأول أنها مرهونة في السودان بيوم بعينه وهو الخميس الأخير من رمضان، بينما القرقيعان يحتفل به في يومين مختلفين، أحدهما منتصف شعبان والثاني في منتصف رمضان.
والسبب الثاني أن الملمح العام للقرقيعان هنا في الخليج وبقية الدول فيه بصمات شيعية واضحة، حيث يوافق قرقيعان نصف شعبان مولد الإمام المهدي، ويوافق قرقيعان نصف رمضان مولد الإمام الحسن.
التقيت البروفيسر العباس سيد أحمد، وهو العالم الذي ترجم وصية الأمير خوليوت ابن بعانخي من اللغة الكوشية الى العربية، فقال لي بأن عادة وطقوس الحارة/الرحمتات أصلها كوشي قديم، ومعلوم أن الكوشيون كانوا على دين آمون رع القائم على التوحيد، وقد تداخلت عبادة آمون باليهودية لاحقا حيث دلت على شواهد عديدة، منها تشابه وصية خوليوت ابن بعانخي بالوصايا العشر التي انزلت على موسى عليه السلام في الألواح، وكذلك وجود ثلمة (الشريمي) من جبل البركل والتي تم نقشها إلى شكل ثعبان يرمز إلى عصا موسى عليه السلام التي حولها الله إلى ثعبان، وهناك ايضا قصة وزير مالية الكنداكة الذي كانت ترسله أماني ريناس بالمحمل إلى أورشليم (القدس)، وقد رسمه الرسام الايطالي رامبرانت في لوحة اسماها (الخصي الأثيوبي).
الذي يهمني في هذا المقال القاء الضوء على بعض المظاهر والفعاليات المجتمعية التي ترفدنا بالكثيف من الإيجاب، وليس الأمر مني نفخ للروح في (عادات) لاوصل لها بالاسلام.
والحارة/الرحمتات تكاد تصبح نسيا منسيّا مع اضطراد حراك الحياة وتسارع رتم العولمة فينا، وأحسبها من العادات التي تضيف ايجابا طالما ارتهنت بمظهرية الصدقة على عمومها، والصدقة باسم الأموات عندما يتخير لها الأطفال فإن ذلك يشكل وجدانهم ايجابا ويضيف الى المجتمع قيمة وصل الأجيال، واقترح بأن تسعى ست البيت عند تقديمها لصدقتها للأطفال إلى الدعاء لميتهم فيؤمن الأطفال.
أما نحن فلانملك إلا الترديد مع شاعرنا ود بادي:
كل فضيلة في الأجداد
أبت ما تبقي في الأحفاد
ومسكت في النعوش
الطاهرة وإندفنت مع
الجثمان.
ياترى هل من عودة لتلك الفضائل؟!
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com