رأي ومقالات

التداعيات الثقافية السالبة علي الأمة السودانية جراء حرب الدعم السريع على الدولة

مما لاشك فيه هو أن عنوان هذا المقال سيرسم حتماً علامة إستفهام كبري في مخيلة عدد من القراء ممن يقع علي أيديهم أو حين يطلعوا عليه من أول وهلة، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه العلامة وتنزوي رويداً رويداً حالما يتوغلوا أو يغوصوا بين سطوره وثناياه، وذلك لأن المعروف لدي السواد الأعظم من قطاعات الشعب السوداني هو أن أسباب هذه الحرب تكمن في الصراع حول السلطة وليس للعامل الثقافي صلة بها، وذلك لأن غبار صراع السلطة كان مسيطراً على الأجواء و مستحوزاً على اهتمام وإنتباه الشارع السوداني وقتذاك.

فالشاهد علي ذلك هو الطموح الزائد لقائد قوات الدعم السريع المتمردة علي الدولة السودانية محمد حمدان دقلو للسلطة دون أية مواربة..إذ تطلع ليصبح الرجل الأول في الدولة السودانية بدلاً عن شغله لمنصب الرجل الثاني فيها والذي تقلده عقب الإطاحة بنظام حكم البشير في عام 2019 ، ويعضد كل ما ذكر آنفاً، ذلك الحراك المجتمعي والسياسي الذي أحدثه آنذاك وهو علي سدة الحكم ، وذلك من خلال إستقطابه لواجهات المجتمع من رجالات الدين و مشايخ الطرق الصوفية وقيادات الإدارة الأهلية وأعيان القبائل ورجالات الصحافة و الإعلام وغيرهم مما لايسع المجال لحصرهم.

ومما يجدر ذكره أن هذا الحراك قد شجعه في المضي قُدما لتحقيق تطلعاته وطموحاته السياسية عبر طريق معقد و شائك بدلاً عن صندوق الإنتخابات ألا وهو طريق الإنقلاب الذي قاد إلى إشعال الحرب بتحريض من قوي الحرية والتغيير المركزي (قحت) ، خاصة فيما يتعلق بالاتفاق الإطاري وتشددهم بضرورة تمسكه به وعدم التنازل عما ورد في بعض بنوده البتة وعلي وجه التحديد أزمنة الانتقال للفترة الإنتقالية، بالإضافة إلي إنعقاد لواء كثرة الرجال وسلطة المال عليه، إذ تراكمت بين يديه وفي زمن وجيز جداً قوة ضاربة من الرجال المقاتلين الأشداء الذين تقول بعض المصادر الموثوقة بأن عددهم قد يربو إلي المائة وعشرين ألف مقاتل في بداية إندلاع شرارة الحرب،فضلاً عن
ثروة هائلة وطائلة من الأموال التي جمعها عبر تجارته ومضاربته بذهب السودان مع دولة الإمارات العربية المتحدة بالإضافة إلي عائدات إستثماراته من مرتزقته في حرب اليمن الذين جلب معظمهم من عرب الشتات بدول غرب افريقيا (Arab Minorities in West Africa) (تشاد والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطي وليبيا) وغيرهم من مرتزقة دول الجوار الأفريقي كمرتزقي دولة جنوب السودان و إثيوبيا ، علاوة علي فتح دولة الإمارات العربية المتحدة خزائنها له علي مصاريعها لدعمه بالمال وتزويده بالعتاد الحربي والرجال، وذلك من خلال شراء الأسلحة النوعية المتطورة كالطائرات المسيرة المسلحة ومدافع الهاوتزر والمدافع المضادة للطائرات بحسب التقرير االذى أصدره محققو الأمم المتحدة وتقرير صحيفة ( New York Times الامريكية ) المنشور في 19 يناير 2024، بالإضافة إلي جلب المرتزقة من كل حدب وصوب وعلي رأسها مجموعة فاغنر الروسية لمحاربة الجيش السوداني، فضلاً عن توظيف علاقاتها الدولية و الإقليمية والدبلوماسية لخدمة مشروعه، لذا نلحظها تفعل كل ذلك اي دولة الإمارات العربية وعينها علي موانيء السودان وسواحله علي البحر الأحمر و أراضيه الخصبة بالفشقة، فضلاً عن سيلان لعابها للمعدن النفيس (الذهب) الذي يذخر به كل سهل أو بقعة أو ربوة من ربوع السودان. الشيء الذي يشير الي انها لم تفعل كل ذلك، لأجل عيون ال دقلو ومن يسبحون بحمدهم وإنما تقوم به، لأجل خدمة أجندة بعض الجهات والدوائر الدولية الضالعة في التآمر علي السودان، علاوة علي مصالحها الخاصة بامتياز، وما قوات الدعم السريع إلا اداة طيعة أُستخدمت من حيث تدري أو لاتدري لتحقيق ذلك الهدف.

ومما يجدر الإشارة إليه هو أنه قد تلاحظ بعد فشل إستيلاء قوات الدعم السريع المتمردة علي مقاليد الحكم في الدولة السودانية بقوة السلاح وبدعم خارجي لايخفي علي أحد، قد تحولت بغتة إلي سيف مسلط علي رقاب المواطنين العزل والذي تمثل في نهب ممتلكاتهم ومدخراتهم وسلب مقتنياتهم وثرواتهم بوصفها غنائم لهم ، علاوة علي تهجيرهم من منازلهم تحت تهديد السلاح، لاسيما في ولايتي الخرطوم والجزيرة، الشيء الذي دفع بهم للنزوح داخلياً إلي بعض مدن وقري السودان الآمنة واللجوء خارجياً إلي دول الجوار والمهاجر البعيدة.

أما فيما يتعلق بالآثار الثقافية السالبة لهذه الحرب كما أشرت إليه آنفاً في عنوان هذا المقال، فقد تجسدت بصورة واضحة في عمليات التخريب والتدمير الممنهج التي طالت العديد من مراكز المعرفة والفكر ومستودعات العلوم والثقافة والتراث ممثلة في دار الوثائق القومية والمتحف القومي والدار السودانية للكتب والمكتبات الملحقة بالجامعات والمعاهد العليا ،فضلاً عن التخريب المتعمد لدار الإحصاء ومحتوياته والتي جمعت منذ عام 1902 ،علاوة علي سجلات الأراضي، وغيرها من المعالم المعرفية والتوثيقية القيمة ذات العلاقة بتاريخ وتراث وهوية الأمة السودانية، الشيء الذي يؤكد بأن ماتم من عمليات تخريب وتدمير للمعالم العلمية والمقتنيات الاثرية والمعرفية بالخرطوم لم تكن صدفة، وإنما كانت مقصودة لذاتها وعلي الأرجح بإيعاز من الجهات الخارجية والدوائر الدولية التي تقف وراء مشروع تفكيك الدولة السودانية والذي من أهدافه طمس هوية الشعب السوداني ومحو تاريخه وتخريب ذاكرته التاريخية، فضلاً عن تجريف تراثه وثقافته ليصبح شعباً ممسوخ الهوية أي ( شعب بدون) ليستوطن في محله عربان الشتات الافريقي* ( Arab minorities in West Africa) الذين يبحثون لهم عن موطىء قدم في أرض السودان.

ولعل ماجري في السودان ومازال يجري حتي الآن لم يحدث البتة في أية دولة في تاريخنا الحديث والمعاصر ، وإنما حدث ذلك في العصور القديمة والموغلة في القدم، لاسيما إبان غزو المغول للدولة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي بقيادة القائد المغولي هولاكو الذي قصف بغداد بالمنجنيق قبل اجتياحها، ومن ثم أمر بتدمير كل المؤلفات والكتب النفيسة و القيمة في المجالات الفلسفية و الأدبية والإجتماعية مع توجيهه بإلقاء كل المخطوطات العلمية النادرة والكتب والمؤلفات العلمية في نهري الدجلة والفرات لطمس ذاكرتها كأمة ، وتجريدها من كل أدوات الخلق والابداع، ونزع عنها ثوب المعرفة والإستنارة ، لأجل الدفع بها الى مجاهل التاريخ و اغراقها في دهاليز الجهل وأقبية التخلف.

وفي الختام يجدر بي أن أشير إلى أنه بالرغم من مظاهر القهر والإذلال والمعاناة التي عاشها المواطن السوداني المغلوب علي أمره ومازال يعيشها في مقرات نزوحه ومواقع تشرده إبان هذه الحرب إلا أنه سيعود أكثر قوة ومنعة لتحقيق تطلعات أمته لغد مشرق ومستقبل واعد يلبي طموحاته ويحفظ ويصون احتياجات الأجيال القادمة وإن غداُ لناظره لقريب.

عوض أبكر اسماعيل