المفسدون أقوياء … لأنهم لا ينامون
وما أن فرغنا من الحصة الأخيرة، حتى رمقني السيد “المدير” بنظرة حادة، كأنه يريد أن يبوح بسر أو يعلن أمراً، ثم توقف قليلاً وهو يتجول بنظره على فريق الأساتذة القدامى من حولنا، ثم عاد ليقول لي في عبارة قصيرة ولكنها صارمة: أنت يا فلان ستكون “ضابطاً” للداخلية هذا العام. وعقدت الدهشة لساني، ثم قلت له بعد فترة من الصمت: كيف أكون ضابطاً للداخلية ولم يمض علي في الخدمة سوى عام واحد، ولم أتعرف بعد على طبيعة العمل أو بيئته، وهؤلاء الأخوة جميعاً أكثر مني خبرة بشؤون الطالب وبإدارة الداخلية؟ أصغى السيدالمدير جيداً حتى حسبت أنه قد اقتنع باعتذاري، ولكنى فوجئت به يقول: يا أخي، دعني أقول لك بصراحة إن علاقاتنا الطويلة ببيئة العمل، و”خرمجتنا” مع هؤلاء وأولئك تجعلنا دائماً موضع اتهام، أما أنت فقادم جديد، ويمكنك أن تتابع القانون دون أن تشعر بحرج، فتوكل على الله وهذا أستاذ فلان سيساعدك إن احتجت إلى شيء.
نسيت أن أقول أن كلمة “مدير” هذه هي الكلمة الجديدة التي صارت ترمز منذئذٍ للسيد “ناظر” المدرسةالإبتدائية التي جئت لتوي للعمل بها. كان يكبرني بنحو من عشرين عاماً أو يزيد، إلا أنه كان رشيقاً في بدنه، أنيقاً في زيه، فناناً في الخط العربي، ويحب الفكاهة ولعب الكشتينة. كان الوقت مطلع السبعينات من القرن الماضي، وكانت ثورة مايو في عامها الأول، وكان الدكتور محي الدين صابر (رحمه الله) وزيراً للتربية وللتعليم، يقف على رأس “الثورة التعليمية”، يصدر قراراً تلو القرار: ضاعفوا المدارس، ضاعفوا القبول، أضيفوا فصلاً خامساً هنا، أدخلوا مادة التربية الوطنية هناك. كان الجو كله مشحوناً بالثورة، كنت تسمع وردى يغنى: أنت يا مايو الخلاص، يا جداراً من رصاص، وكنت ترى كتابة بالخطوط العريضة على حيطان المدارس: نميري/قذافي/ناصر، حرية/وحدة/اشتراكية، مكتوبة بخط أحمر قان، وكنت ترى الرئيس النميري ينزل من الطائرة قفزاً، لا ينتظر السلالم.
وقفت مع الواقفين في طابور طويل أمام مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، ولما جاء دوري سألني رئيس لجنة المعاينة: هل معك الشهادة السودانية؟ قلت له نعم، هل أنت مستعد للعمل في أي مكان خارج الخرطوم؟ قلت نعم، وانتهت “المعاينة”. (الحظ عبارة “أي مكان خارج الخرطوم”). ووجدت نفسي بعد أسبوع واحد في قطار الاثنين المتجه إلى الأبيض، إذ كانت قطارات الركاب ما زالت تعمل. ذهبت فوراً إلى معسكر التدريب المقام بالمدرسة الثانوية لبنات الأبيض. كانت الخطة هي أن عدداً من التربويين (الذين جيء بهم أيضاً على عجل) سيقومون باختصار نظريات التدريس والتربية وتدريبنا عليها في شهر واحد، يتم بعده توزيعنا على المدارس لنشرف على السّلم التعليمي الجديد. وقد وقع ذلك بالفعل، فصرت معلماً في شهر واحد، ثم تمت ترقيتي على يد الأستاذ “المدير” فصرت “ضابطاً” للداخلية في الشهور التي تلت ذلك، ألم أقل لك إننا كنا نعيش “ثورة تعليمية”؟
كانت المؤسسة التعليمية ترتكز على نظام الإعاشة الكاملة للتلاميذ، وكان نظام الإعاشة يرتكز على ثلاثة أركان: ضابط التعليم، ضابط الداخلية، المتعهد/المقاول. يطرح ضابط التعليم عطاء عاماً لتوريد مواد غذائية للمدارس التي يضمها مجلسه، يتقدم المقاولون بعطاءاتهم، ثم يوقع عقد مع صاحب العطاء الفائز يتعهد فيه توريد المواد المطلوبة وفقاً للأسعار التي اقترحها في عطائه. وإذا أنت تأملت هذه العملية على “الدفاتر الرسمية” لما راودك شك في قانونيتها وشفافيتها وعدالتها، أما إذا قدر لك أن تراها عارية على الأرض فستدرك أن الفرقبين “الدفاتر الرسمية” والحقيقة الأرضية كالفرق بين الليل والنهار.تقمصتني ذات يوم روح “الضابط”، فصرت أتجول على الناحية الخلفية من المدرسة، متفقداً أحوال الرعية التي صرت مسئولاً عنها رغم أنفى. رأيت أكواماً من حطب الحريق، فخطر لي أن أسأل “حميدان”، رئيس الطالب الذي كان يساعدني، ويتسلم المواد من المندوب المحلى للمتعهد: كم “قنطاراً” من الحطب تستخدمون في الإسبوع لأعداد الطعام؟ قال: ماذا تقصد بقنطار الحطب يا أستاذ؟ قلت ألا تزنون الحطب بالقنطار كما هو منصوص عليه؟ تبسم حميدان في أدب ثم قال لي: إن قريتنا هذه محاطة بالغابات، ومليئة بالحمير، والحطب عندنا لا يوزن يا أستاذ. راجعت قراءة “العقد” المبرم بيننا وبين المتعهد، فوجدت أننا نستلم “نظرياً” وبحسب نصوص العقد عدداً من “قناطير” الحطب في الأسبوع، وأن القيمة المنصوص عليها لقنطار الحطب تكاد تساوى قيمةالدقيق، إن لم تخني الذاكرة.
قلت لعل في الأمر سهو، ولكنه سهو أثار فضولي، فأخذت أراجع أسعار المواد الأخرى المقدمة لنا واحدة تلو الأخرى: الدقيق والبامية واللحم الطازج واللحم الجاف والبصل واللبن والصابون والجاز الأبيض، فوجدت عجباً، وجدت مثال أن “العقد” يتحدث عن دقيق الذرة، دون تحديد، مع أن أسعار الذرة تختلف باختلاف أنواعها، ووجدت أن المتعهد لا يورد إلا دقيق “الفتريتة”، والذي يقل سعره كثيراً عن الأنواع الأخرى من الدقيق، كما يقل كثيراً عن المبلغ الذي التزم به في العطاء. غير أن تصرفه هذا كان يعد سليماً من الناحية “القانونية” طالما أنه لا يمكن لأحد بالطبع أن ينكر أن الفتريتة نوع من الذرة. ثم وجدت العقد ينص على إيراد كذا كيلو من “اللحم الناشف” بينما يورد المتعهد كذا كيلو من اللحم الطازج، على ما بين الناشف والطازج من فروق كبيرة في الوزن والسعر.
قلت لحميدان: أي أنواع الدقيق تحبون؟ تبسم حميدان في أدب ثم قال لي: طبعاً “الدخن” يا أستاذ. فاتخذت قرارا بالأ نستلم من وكيل المتعهد إلا “دخنا”، طالما أن الدخن يمكن أن يعد أيضاً، وبحسب القانون، نوعاً من الذرة.ثم لاحظت بعد قليل أن الدقيق المقرر لإطعام عشرة تلاميذ مثال يكفي لإطعام عشرين حينما يتحول إلى عصيدة، مما يعنى أن لدينا فائضاً منه، فاتخذت قرار بتحويل قيمة الدقيق الفائض إلى بلح وحلوى، وفائض قيمة الحطب إلى لحم، وفائض البامية إلى صابون. فكان السيد “المدير” إذا ذهب يتجول في سوق القرية، سأله بعض آباء التلاميذ: ما بال أبنائنا في هذا العام يأتوننا بالبلح والحلوى وقد صارت لهم”كضيمات”؟ (يقصدون خدود ناعمة)، أما إذا سافر إلى المدينة في نهاية الشهر، سأله المتعهد في ثورة عارمة: من هذا “الحيوان” الجديد الذي جعلتموه ضابطاً للداخلية؟ والله لافعلن به كذا وكذا، ولأنقلنه إلى بلد طيره عجمي.
كنت أرى نفسي مصلحاً، وكنت أتوهم أن ضابط التعليم أقوى من المتعهد، وأنه سيقف معي إذا ساءت الأمور (لأنه يمثل الحكومة والثورة)، وأن أولياء أمور التلاميذ أقوى منهما معاً، وسيقفون معي لأنهم يمثلون ضمير الشعب، كنت أتوهم أنني في موقف قوى لأن القانون معي والشعب معي، ولكن لم يمر عام ثان إلا وجدت نفسي بالفعل على رأس قائمة المنقولين، نقلت إلى قرية نائية، طيرها عجمي، لا توجد بها عيادة ولا سوق ولا بئر، ولا يمكن الوصول إليها إلا على حمار. لقد أبر السيد المتعهد بقسمه، ولم يتدخل ضابط التعليم (وهو الذي يوقع على قوائم النقل بالنهار، ويتسامر مع المتعهد بالليل) ولم يحتج آباء التلاميذ، فالمتعهد في ذلك الزمان والمكان كان أقوى من الحكومة ومن الشعب. لقد شعرت، لا أخفى عليك، بغيظ داخلي لازمني طويلاً؛ ليس فقط لأني نقلت من قرية نائية إلي أخرى أشد نأياً، ولكن لأن المتعهد هذا يعد وجهاً من وجوه المدينة يتصدر المجالس، ويتبرع الأموال، ويشار إليه بالبنان.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالانتصار والهزيمة معاً، ولكني تعلمت درساً لن أنساه: إن المفسدين أقوياء لأنهم لاينامون، ولا يعمل أحدهم منفرداً، وإنما يعمل من خلال شبكة أو شلة أو شركة يلبس انواع فاخرة من الثياب، ويكثر من الولائم، ويحتفظ بخطوط مفتوحة مع كبار المسئولين والقانونيين الإعلاميين. أما المصلحون فهم ضعاف لأنهم يعملون فرادى، وينامون مبكراً.
كنت ساذجاً قليل التجربة، فلم أدرك شيئاً من هذا. لقد كان خطئي الأساسي في ذلك الزمان أن توهمت أن “القانون” وحده سيكون كافياً. كان على أن أدرك أن كثيراً من القوانين يكتبها المفسدون أنفسهم، وينفذها أصدقاؤهم، وأن كثيراً منها لا ينفذ إلا على المغفلين أو المعدمين، كان على أن أدرك أن القانون لا قيمة له إذا لم يسنده وعى جماهيري، فلو أنى مثال تواصلت مع المواطنين/الآباء، أصحاب المصلحة الحقيقية في الاصالح (كما كان يتواصل معهم المتعهد)، وقرأت عليهم العقد، وأوضحت لهم حقوق أبنائهم، وكشفت لهم ألاعيب المتعهد، وصديقه ضابط التعليم، لما وجدت نفسي مكشوف الظهر؛ ولو أنى أنشأت جمعية في القرية لحماية التلاميذ، أو للحفاظ على حقوق الطفل، لكان ذلك أكثر نفعاً على المدى البعيد من المعركة الخاسرة التي خضتها وحدي مع المتعهد.
لكن ألا يعنى ذلك أن أغير “وظيفتي”؟ ألا يعنى ذلك أن أتحول من معلم يحارب الجهل إلى سياسي يطارد المفسدين؟ لا، ليس هناك تحول، لأن محاربة الجهل ومحاربة الفساد لا ينفصلان، وفى مثل الظروف القاسية التي يمر بها شعبنا ينبغي على كل من تعلم حرفا أن يتحول إلى مصلح، و أن ينخرط ليس فقط في عملية إشاعة الوعي بين الجماهير المسحوقة التي توجد بأسفل الهرم، وإنما يحرضها ويحركها حتى تمسك بزمام الأمور، فتقطع دابر المفسدين الذين يتربعون بأعلى الهرم، أو يندسون في طبقاته الوسطى.
إن خطوة صغيرة في طريق الإصلاح قد يكون لها أثر كبير في إرباك الشلل الفاسدة، ومحاصرتها، والقضاء عليها، بشرط أن يستيقظ المصلحون، وأن يفتحوا الخطوط بينهم، وأن يفتحوا الخطوط مع الجماهير، فالجماهير أقوى من المفسدين.
ولا قوة إلا بالله
الدكتور التجاني عبد القادر حامد