رأي ومقالات

أدباء وشعراء ومبدعون سودانيون قتلتهم مجالس القطيعة والكيد السري المتشفي

.” الجمل ما بشوف عوجة رقبته ”
– مثل شعبي سوداني –
والمثل أعلاه يطابق حالتنا السودانية تماما وكمالا . نحن أكثر شعوب الأرض تفردا في إنتفاخة الذات ، والإفراط في مدحها ،
والويل الويل لمن يشير إلينا بمنقصة فينا لم نراها ” تعودنا في حياتنا أن ننظر دائما إلى الداخل وعيوننا منقلبة أي أن نرى أنفسنا من وجهة واحدة وحيدة وضيقة تنبع من تلك التجارب الصغيرة التي خضناها كشعب ” وذلك قول الراحل عبدالرحيم أبو ذكرى في مقالته – حين ننظر بعيون الآخرين – بمحطة الثقافة العدد السادس عشر ديسمبر 1980م .
وقال في مقدمته : ” نحن كشعب له حسنات كثيرة تحدثنا عنها وأطنبنا في الحديث ، وآن الوقت أن نتحدث عن معايبنا وأرجو أن تتسع الصدور لهذا ، والكي يؤلم لكنه يشفي في كثير من الأحيان . لقد تحدثنا عن حسناتنا كثيرا عن إكرامنا للضيف . شجاعتنا عند الشدائد الأنفة الخ .. وكل هذا حق ، فهل نقبل الحديث أيضا عن عيوبنا وهي واضحة لكل منصف محايد ، ومنها الكسل والمزاج المتقلب والحماقة والمسك في سيرة خلق الله مثلا ولا أزيد ” ..
وفي مسألة المسك في سيرة خلق الله للسودانيين فنون وإبداع وكذا النميمة ، التي جعلوا لها مجالسا .
وشاهدنا في ذلك قول الأستاذ محمد المهدي المجذوب في مقالته : النقد في السودان . متحدثا عن مجالس وقعدات القطيعة المتشفية المحملة بشحنات الحسد والكراهية التي مال إليها أغلب سكان القرى والمدن من أهل السودان قائلا :
” فرقعوا الثياب وطيبوا الطعام والشراب . وصار للشاي والبن حفل . وارتقى الناس إلى ذوق يقيسون عليه الكلام ويشنفون أو يشكرون ولما كان لابد من رد اللوم بلوم مثله أو أشد ، والمديح بعطاء أو مديح يوازيه أو يفضل عليه ، فقد رقة الألسنة فهي مصقولة كالسهام تسددها البداهة فتصيب الرمية .
واشتهر ظل الضحى والقعدة فيه حتى قالوا أن الجلوس في ظل الضحى يطيل العمر . فالرمل يرتفق به القوم نظيفا لينا مريحا باردا والنسيم عليل والشمس تقع على كل شيء فتجلوه وينطلق الحديث . وقد يمر عابر فيذكرون أصله وفعله ، ثم يعلقون على زيه ومشيته ولحيته ، ويتغامزون ويضحكون ذلك الضحك العالم وينفسون عن أنفسهم بالونسة والقطيعة ”
ويقول محمد المهدي المجذوب في مقالته :
أصبحت القطيعة في المدن والقرى التي نعمت بالعيش واختلط فيها الحابل بالنابل نقدا خفيا يغتال محدثي النعمة ، وحل محل المبارزات الجهيرة القديمة بالأنفة والحمية والعزة القبلية والعصي والسيوف .
وأصبحت القطيعة كيدا سريا لا يترك واردة ولا شاردة وقد وجد الناس متعة عظيمة في القطيعة المتشفية حتى أسموها ” عنكوليب الحديث ” أي أحلى ما فيه إشباعا وتسلية ..
والقطيعة ضغينة وفتنة تبقي الصدور ولا تزول .
وذلك الواقع البائس الممارس لتلك المجالس السرية المتشفية تسببت في خفوت أصوات أدباء وشعراء ومبدعون بازخون متفردون في تاريخ الإبداع السوداني وشحب إنتاجهم بل وقضت على حياتهم فرحلوا عن الدنيا بحسرتهم ..
فلولا تلك المكائد والدسائس والأحقاد التي لاحقتهم لبرز هؤلاء للعيان وأثروا الوجدان والذهن السوداني والعربي والعالمي .. ولكن للأسف ذهبوا باكرا ومنهم :
الدكتور أحمد الطيب أحمد مؤسس ورائد المسرح السوداني ومن مؤسسي معهد التربية بخت الرضا المؤسسة التعليمية المعروفة ، أحمد الطيب أحمد أول من ينال درجة دكتوراة الفلسفة من الجامعات البريطانية في علم فن المسرح ، على نطاق عالمنا العربي ، ترجم معظم نصوص وليم شكسبير ، مارس ” الدراتورجية ” قبل أن يستقر هذا المصطلح أو يعرف في الدراسات المسرحية .
صدر له عن دار نشر جامعة الخرطوم كتاب ” أصوات وحناجر ” كما له ديوان شعر . وهو يمت بصلة قربى للبروفيسور عبدالله الطيب وصديقه الأحب وأكثر الناس شبها به في المواهب والقدرات ..
لاحقته مكائد الأقران ، وانفجر حزنا وكآبة وانهى حياته بتناول كميات كبيرة من العقاقير في أوائل ستينيات القرن العشرين .
وسبقه في النهاية الدرامية أيضا في الأربعينيات الكاتب السوداني معاوية محمد نور ” ، أعظم أدباء السودان وناقد الحداثة المفن الأول ..
ولد معاوية محمد نور في أم درمان حي الموردة عام( 1919م ) ….
كان معاوية السوداني الأول الذي حصل على درجة البكالوريوس من قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية ببيروت .
قال عنه أستاذه السوري المسيحي البروتستاني ” أدوارد عطية ” :
” معاوية فتى مسلم ، فتى أسود ، إنه ليس عربيا فحسب ، ولكنه إفريقي أيضا ، لم يعرف بلده أي ثقافة اللهم إلا شكلا ضيقا ومتوقفا عن النمو …
شعرت نحوه بتعاطف عميق .. هو وأنا إلتقينا معا في ذلك الموطن العظيم : الأدب الإنجليزي ” ..
” الطيب صالح “متحدثا عن الناقد معاوية محمد نور قال :
كان معاوية ، يقول القول ويمضي عليه اكثر من خمسين عاما ، فيظل صادقا كانه قيل لساعته .
وعن الحالة المأساوية التي انتهت حياة معاوية قال :
كان معاوية ، أديبا صرفا ، وكان مفكرا صرفا ، ولم يكن يرضي لحياته في الأدب والفكر بديلا ، ولم يكن مستعدا للمساومة وقبول أنصاف الحلول .
وقال :
هذه العبقرية الفذة التي احترقت كالشهاب وهي في شرخ الشباب .
أصيب معاوية محمد نور بمرض عقلي وقال الرشيد عثمان خالد في كتابه الأعمال الأدبية لمعاوية محمد نور ” أنه لمن المرجح أن إختلال قواه العقلية جاء نتاجا لفشله في أن يوفق بين حياته وطموحه الفكري وواقع بيئته .
ومن المفارقات كما قال عبدالرحيم أبو ذكرى : مات معاوية محمد نور تحت تأثير السياط في خلوة فكي .
ولن نغفل في هذا المقال – بالطبع – الشاعر إدريس جماع الذي مات نفسه بالجنون الذي أصابه بسبب الضغط النفسي تحت تأثيرات المكائد ودسائس الحاسدين من الأقران والصحاب والأقارب أنفسهم .
ومن أكثر النماذج إلتماعا من الذين خبا نجمهم وذهبوا من الحياة مدفعوا بالتآمر والكيد من داخل تنظيمه السياسي هو الأديب والشاعر المرهف محمد عبدالرحمن شيبون الذي كان يتميز بالشفافية والرقة وقد كان سياسيا متفرغا بالحزب الشيوعي السوداني – كما قال عنه محمد أحمد يحي – وخرج عنه واصبح معلما ولاحقته مكائد الرفاق تشفيا وانتحر شنقا عام 1960م بمدينة الحصاحيصا
ومن أقواله :
” لقد رماني من كنت أعلمه الرماية حتى اشتد منه الساعد ، لقد أدار لي البعض ظهورهم الباردة والتي لم تكن ساخنة في يوم من الأيام .
وهنا أختم مقالي بقول أحد الإنجليز الذين خدموا في السودان إبان عهد إحتلالهم
قال : السودانيون شعب عظيم فى كل شيء إلا أنهم عديموا ” الوطنيه ” ،
السوداني على كامل الإستعداد ليتنكر لوطنه ويبيعه بأبخس الأثمان ،
السودانيون شعب موبوء وممتلئ ” بالحسد ” ، يحسد بعضهم بعضاً بشكل بغيض ومنفر ،
شعب يحب الخير كل الخير للأجنبي .. ولا يحب الخير حتى لأخيه شقيقه ،
وأضاف الخواجه الكلام الصادم قائلا :
هل تصدق يا مستر ، كان كبار موظفو الدولة السودانيون يأتون لرؤسائهم الإنجليز لتقديم تقارير سيئة للغاية ضد أبناء جلدتهم ،
بل كانوا يكتبون تقارير سريه ضد بعضهم البعض والوشاية بالإنتماء سراً للمقاومة ضد الحكم البريطاني ،

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله