مرافعة البصيرة أم حمد .. الركاكة والتناقض والرياء

يعود أزهري محمد علي للضوء بقصيدة جديدة بعنوان (مرافعة البصيرة أم حمد)، يعود خجولا حذراً يقدم عربوناً للتطبيع مع الشعب السوداني الذي رآه يضع يده في يد الجلاد ويصافح القتلة، فأزهري كان قريبا من المليشيا قبل الحرب ولو كان ذلك على إستحياء تحت لافتة دعم منظمات المجتمع المدني ، ومع أنه صاحب أفخر وأكثر عبارات المزايدة السياسية قوة، لكن التجارب أثبتت أن أكثر الناس ادعاء للمبدئية يخفون وراءهم أكثر المواقف انتهازية.
يعود أزهري بقصيدة تفتقر لأدنى مقومات الحياة والروح ، هي لا تشبه (خريف الدم) في حدتها ولو أن القاتل اليوم أوضح من ذي قبل، ولا تشبه (نورا) في مباشرتها ولا (حكمونا بسوط العنج) في قوة ألفاظها وأصالتها، فقد قدم ازهري قصيدته بعنوان “المرافعة”، لكنها في حقيقتها كذبةٌ أدبية مُبطَّنة بالغموض المتعمد والمواقف الرمادية المائعة، قصيدة لو لم توقع باسم أزهري لما تابعها القارئ للسطر العاشر، والقارئ المتجرد يمكن أن يقرأها حتى آخر سطر، ولا يجد (الدهشة) المرتجاة والتي توازي الانبهار بشخص ازهري وتاريخه في العمل السياسي المعارض .

كانت مرافعة ازهري فوضى لغوية محضة كعادة شعر اليسار الجزافي السوداني ، فهي خليطٌ هجين من الفصحى والعامية بلا ضابط، وهذا ليس تجديدًا او توجها من توجهات الشعر الحر، وانما هو عجزٌ عن توحيد لغة القصيدة، فقد حشد الشاعر استعارات عديدة ميتة أو مبتذلة (غرف الشريان التاجي، غرق في لجة الأحلام، دق قلبك والأرض مالت ) مع الصورٌ المُكرَّرة والايقاع الكئيب، ولأن القصيدة طويلة جدا جدا فيصعب أمر ربطها ببعضها فهي أشبه بقصائد مدمجة ، وهذا ما اضطر الشاعر لاصطناع الكنايات الكثيرة كتعويضٌ عن عجز الإيقاع وفراغ المعنى، لذلك ترى القصيدة تزحف مثل كلب ضال مكسور الرجل .

ان رداءة المعاني والتكرار المُمِل، والأفكارٌ التسعينية البالية و (المُعاد تسخينها) وتكرار ثنائية (الظالم/المظلوم)، (القصور/القطاطي) ، (السلطة/الشعب) هي طرحٌ ساذجٌ يخلو من العمق ويفتقر لتجديد الرؤية كأن الشاعر يعيد نسخ كراسات التسعينات والانقاذ الأولى بلا إضافة، بل بتعمد تكرار افكار الظلم والشتات والغربة بصور متشابهة والفاظ مختلفة، وهذا ليس ترسيخًا للفكرة بل هو إهانةٌ لذكاء القارئ وتعبيرٌ عن فقر الخيال، ما يجعل القصيدة تدور في حلقة مفرغة، هذا غير العمومية والغموض المُتعمَّد في كثير من السياقات، وهو غموضٌ مقصودٌ لتمويه انعدام الرؤية والهروب من المسؤولية الفكرية .

ان قصيدة أزهري مع افتقادها وحدة الموضوع، فقد غرقت في التناقض الصارخ والحياد المستهبل، فكان العداء الصريح والمباشر للعسكر (الجيش السوداني ) والتغاضي عن (كتائب الجنجويد) ، ولا يقولن أحدٌ أن العسكر تشمل كلا معسكري الجيش والجنجويد ، لأنه في كل كراسات الثورة المصنوعة والنضال الكذوب الذي سبقها لم تكن كذلك فالعسكر هم الجيش السوداني كما في (العسكر للثكنات والجنجويد يتحل) و (دين العسكر ودين أبو طيرة) وغيرها، لذا كانت العبارة الأكثر وضوحًا في القصيدة كلها هي (وطي صوت الأنتونوف) كدعوة ل (وقف الحرب) كما جرت العادة في عرف المحايدين (الغير موضوعي) أن الحرب يجب أن تقف من طرف واحد ، ثم ذكر (البساوم في الكرامات بالكرامة) كتعريض باسم معركة الكرامة، بينما تختفي الاشارة ل (الجنجويد) تماما عدا ذكرها بشكل ختامي (مافي مليشيا بتحكم دولة) في نهاية تبدو كـ”فلاش باك” مُلصَق بسياق اقتحامي بدأ بمخاطبة الجيش ب
العز البتقدل فوقو
لحم أكتافو فضلة خيرنا
الكاب المشنقو كابنا
والقاش البتكربو قاشنا
والبوت البتلبسو بوتنا
والنجم اللمع فوق كتفك
دقينا هو من ياقوتنا
..
لينتهي هذا الخطاب ب:
كان الأولى تسمع صوتنا
يوم قلنا تحت السونكي
مافي مليشيا بتحكم دولة
فهذا افتقاد للتوازن وانحياز مغلف بالثورية، لأن أزهري لا زال يسعى للحفاظ على البرستيج الثوري المُزيَّف، فالقصيدة تتحدث لغة الثورة (درب الثورة كمين جولة، خلخلنا العروش والصولة) وتتغنى للمساكين والغلابة ، بينما موقفها العملي داعم ضمنيا للطرف الأكثر دموية وإرهابًا (الجنجويد) عبر الصمت المُتعمَّد والتشويه الأحادي، فهي بذلك سرقةٌ للرصيد الرمزي للثورة بغرض تمرير أجندة منحازة، هذا غير تقديم الصراع بشكل انصرافي كأن جمهور أزهري ليس جزءا من هذه الحرب أو متضرر منها .

ثم أن جزئية (ناس تكبر للكرامة وناس تهلل جاهزية) فهي محاولةٌ لطمس الفوارق الجوهرية بين طرفي الصراع (الجيش النظامي في مواجهة مليشيا الإبادة الجماعية)، وكذلك محاولة لإزكاء الانقسام بين الشعب السوداني، والادعاء بأن الشعب السوداني مقسوم بين من يريدون الكرامة ومن يريدون الجاهزية، وهذه (الحيادية) الزائفة هي تواطؤٌ أخلاقي مع الجلاد تحت شعارات شعبوية ، وقد حدث كل ذلك بسبب أن الشاعر لا يتمثّل ما يقول: فخطاب التضحية والفداء يصدر عن شاعر يتبنى خطابًا يدافع عمليًا عن المليشيا التي سفكت دماء الشهداء في كل ركن من أركان السودان .

خلاصة الأمر فإن أبرز ما في النص هو السذاجة الفكرية والحلولٌ الطفولية، فالرد على المأساة بـ (خلي بالك للفراشات) و (شيل أصابعك من زناد البندقية وختهم في الساكسيفون”؟!) هذه سذاجةٌ تصل حد الابتذال وتُظهر انفصالاً تامًا عن واقع الدم والنار الذي يعيشه الشعب السوداني طوال أكثر من عامين .

كما أن تكرار عبارات مثل (كله مكتوب والله غالب) و (ماسكه في حبل الله المتين) و (خافو الله عليكم الله) و (انتو في الصف الموازي والله في صف المساكين) و (وين تفوت من الله وتروح) هذا ليس عمقًا روحانيًا، بل استخدامٌ بائس للدين لتبرير التسليم لجرائم الجنجويد والقبول بالواقع المأساوي وتخدير الجماهير عن ادانة جلادها ..

لذلك فان مرافعة البصيرة أم حمد هي نص ركيك وردئ لشاعر تحول إلى ناشط سياسي ، فهي ليست نصا شعريا وانما خطابٌ سياسي مُتخفٍّ في ثياب الشعر، خطاب يعبر عن الخيانة الصارخة لدماء الضحايا وللحقيقة، خطاب يوظف الشعر في خدمة القتلة بالتغاضي عن جرائمهم والتماهي مع رؤيتهم السياسية ..
يوسف عمارة أبوسن
١٨ يوليو ٢٠٢٥

Exit mobile version