ظلت قضية الدمج والتسريح وإعادة الإدماج في السودان، أحد أعقد الملفات منذ إتفاق نيفاشا عام 2005، وحتى إتفاق جوبا 2020 ظلت البرامج شكلية، ولم تعالج جذور الأزمة. فقد نصت الإتفاقيات على دمج قوات الحركات المسلحة، في القوات النظامية، وإعادة هيكلة القطاع الأمني. لكن التنفيذ ظل محدودا، وتحول الدمج في كثير من الأحيان إلى وسيلة لشرعنة الإنقسامات، بدلا من بناء جيش وطني موحد. أستثنيت قوات الدعم السريع بقانون خاص عام 2017، بالإعتراف بها من قبل المؤسسة العسكرية، فتدخلت أدوارها لتصبح جيشا موازيا داخل الدولة. ما عمق الإنقسامات، وساهم بشكل مباشر في إنفجار الحرب الحالية.
يمثل قرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بإخضاع جميع هذه التشكيلات للقانون العسكري لسنة 2007، خطوة محورية لإعادة بناء احتكار الدولة للعنف المشروع. وضمان خضوع كل الحركات المسلحة، والمجموعات المشاركة في الحرب، للتراتبية والإنضباط العسكري. بما يحول دون إستمرار نموذج القوات الموازية، ويؤسس لجيش مهني موحد، يخضع لسلطة الدولة.
لقد لعبت الحركات المسلحة والقوات المساندة، دورا بارزا في حرب الكرامة، حيث شاركت هذه التشكيلات في مواجهة التحديات العسكرية والدفاع عن السودان. ما منحها خبرة قتالية وأهمية سياسية،ألا أن القرار يواجه تحديات كبيرة، تتمثل في ضعف القدرة على التنفيذ والشرعية السياسية. التي تتمتع بها بعض الحركات المسلحة عبر إتفاق جوبا، إضافة إلى المصالح الاقتصادية المرتبطة بهذه الحركات، في مناطق التعدين والتهريب.فضلا عن البعد الإقليمي، الذي يسعى إلى توظيفها كأدوات نفوذ.
مني مناوي أكد دمج الحركات في الجيش، لضمان الإنضباط، ووحدة المؤسسة العسكرية. أما التشكيلات المساندة التي ظهرت أثناء الحرب، مثل البراؤون ودرع السودان، فقد التزمت بدعم الجيش مؤقتا. حيث صرح قائد البراؤون، بأن قواته ستنسحب من المشهد العسكري بانتهاء الحرب، في حين يبدو أن درع السودان، مهيأ للإندماج الكامل في الجيش النظامي. وهنا يظهر التباين بوضوح بين الحركات المسلحة، التي تحتفظ بالسلاح لحماية مصالحها الإقتصادية والسياسية، وبين هذه التشكيلات. التي أعلن بعضها عن إنسحاب مؤقت، والبعض الآخر يستعد للإندماج. مما يطرح تساؤلا حول مدى الإلتزام الدقيق، بهذه التصريحات عند التطبيق الفعلي؟
من الممكن أن تبدي بعض الحركات والتشكيلات المساندة، مقاومة للقانون العسكري، في محاولة لإعادة إنتاج نموذج القوات الموازية. الذي دفع السودان إلى أتون حرب دامية، وأدخل الدولة في دائرة الإنقسامات، والنزوح والإنتهاكات. بعض هذه القوات تتوهم أنها قادرة على مقايضة الجيش، أو فرض شروطها عليه، غير أن التجربة أثبتت أن أي محاولة للضغط أو المناورة. يجب أن تواجه بموقف صارم، فالإنضواء تحت القانون العسكري، يظل الخيار الوحيد. وإلا فإن على قياداتها التنحي عن مواقع السلطة،إذ لا يمكن الجمع بين التمرد، والسلطة في وقت واحد.
وعند النظر إلى المستقبل يظل إحتمال نجاح الدمج قائما، حيث يخضع الجميع للإنضباط العسكري، ويندمجون في الجيش الرسمي. ما يعزز فرص إعادة بناء الدولة، على أسس مهنية ووطنية، ويؤسس لجيش يحمي الدولة ويحتكر العنف المشروع. بالمقابل، قد ترفض بعض القوات الإنصياع، ما يفتح الباب لمواجهات جديدة تزيد المشهد تعقيدا، وتضاعف كلفة الحرب على المجتمع والدولة. كما أن التسوية الجزئية، التي تقبل بالقانون شكليا بينما يستمر نفوذ غير رسمي على الأرض، لن تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة وتمديد حالة الانقسامات المسلحة.الحل الحقيقي لا يكمن في المساومات، بل في دمج شامل تحت سقف جيش مهني واحد، مع إجراءات رادعة ضد أي محاولة للتمرد. ومسار سياسي شامل يعترف بحقوق القوات المساندة، ويضمن تمثيلها ضمن المؤسسات الرسمية، لكنه في الوقت ذاته يعزز الولاء للدولة لا للقيادات أو الولاءات الضيقة. ويجب أن يواكب ذلك دعم إقتصادي وإجتماعي، يقلل من دوافع حمل السلاح، إلى جانب إصلاح أمني وعسكري يركز على المهنية. ويضمن دمج المؤهلين، وتسريح غير المؤهلين عبر برامج مدنية.
إن الحديث عن الدمج في هذه الحرب لم يعد بندا تفاوضيا، بل أصبح شرطا وجوديا، لبقاء الدولة نفسها. فإما أن يتحقق الدمج الفعلي وفق قانون رادع، وآلية صارمة تضمن وحدة الجيش، أو يبقى السودان أسيرا. لإنقسامات القوات المساندة المتجددة، التي تهدد وجوده كدولة وطنية قابلة للحياة.كذلك مسار الدمج هو إمتحان لقدرة السودانيين، على تجاوز الإنقسامات وبناء جيش قومي، محترف يحتكر السلاح ويخضع لسلطة الدولة ويؤسس لسلام مستدام. إن قرار البرهان خطوة قانونية مهمة، لكنه لن يكتمل إلا بإجراءات عملية عاجلة، ورقابة صارمة. تضع الجميع أمام الإلتزام الكامل بالقانون العسكري،أو التنحي عن مواقع السلطة.
السودان لم يعد يحتمل التهاون والدمج الحقيقي، والإنضباط العسكري وإرادة الدولة الحازمة، هي الطريق الوحيد لإنقاذ وبناء جيش. يحمي الدولة، ويؤسس لسلام دائم ومستقبل مستقر.
د. مريم رضوان – خرطوم نيوز
