ومائة وعشرون دانة يومياً، ولأشهر طويلة كانت تحفر كل شبر في أرض ومباني المدرعات.
ولا أسلحة للرد…
والعدد قليل، ولو أن كلاب الدعم هجموا لاكتسحوا المدرعات.
والمقاتلون الذين يقضون الليل والنهار على بطونهم كانوا يعرفون أن وصول العدو إذا دخل المدرعات لابد أن يسبقه دخول أرواحهم إلى سماوات الله العظيم.
وفجأة… همسات تنتقل، وكل من يسمع الجملة يشرق وجهه.
كانت “مركب” خشبية تتسلل تحت الليل من ناحية الجبل تحمل أول شحنة من الأسلحة…. والجرف على الشاطئ يغطي مئات المراكب التي ظلت تتسلل تحمل السلاح.
وعند البوابة الشمالية كان يجلس “الجندي نفر” والذي كان يحمل رتبة عقيد قبل أن يُقاعَد، الجندي زاكي الدين.
وزاكي الدين، واللواء التهامي وآخرون من رتب عليا، كلهم جاءوا متسللين إلى المدرعات ليقاتلوا برتبة “جندي نفر”.
ثم شيء يحدث…
وشباب من الحماداب، الشجرة، الرميلة وجبرا، وبحر أبيض، كلهم تسللوا إلى داخل المدرعات لحمل السلاح.
والقرى حول المدرعات حولت بيوتها إلى عنابر مستشفى تُنقل الجرحى إليها.
ثم… تكبير يشق الفضاء، فقد استطاعت مجموعة من العمل الخاص شق طريقها وسط الدعم حتى دخلت قيادة المدرعات. جاءت من أم درمان عن طريق المراكب.
كان الشهيد مهند (الذي جاء من روسيا واستشهد في أم قعود) يعرض “العرضة السودانية”، وهو مع الآخرين يحتضنون إخوانهم هؤلاء.
لكن عدد الدعامة حول القيادة كان يؤكد أن المجموعة هذه… والمجموعة التي ظلت داخل القيادة… ليست أكثر من أموات تأجَّل دفنهم.
وعدد كبير من المعاشيين كانوا يتبادلون العناق مع زملائهم.
كان كل شيء يستعد للخطوة القادمة.
(2)
دكتور سليمان مرحب كان يستعيد أن الأمريكي سكوت قريشن قد قال له منذ سنوات:
“فصلنا الجنوب… وسوف نفصل الغرب”.
وفي أول أيام الإنقاذ كانت مندوبة أمريكا (امرأة في وزن خمس نساء) تقول لدكتور أبو صالح:
:: سياستنا هي شد الأطراف من الخارج، وإعادة صناعة عقل الجيل الجديد حتى يصبح عدواً لكم…
والإنقاذ كانت تجد أن رصيد السودان من العملة الصعبة مائة ألف دولار، لا تكفي لإطعام الناس يوماً واحداً.
وفي أيام إعادة ترتيب البيت السوداني عام تسعين كنا نقلب ملفات المخابرات، ونجد أن من كان يرسل الطعام والدعم اللوجستي لقرنق هو حكومة الصادق المهدي تحت اسم “شريان الحياة”.
بينما مشهد تبثه ساحات الفداء بعد ذلك هو:
مشهد علي عثمان محمد صالح وهو يزور القيادة الشرقية، وقائد الفرقة الذي كان يقدم التنوير يحدث زعيم المعارضة عن أن الجيش يفتقد كل شيء.
ولحظات… والرجل يقول للأستاذ علي عثمان إن جنوده يصطادون الصقور لأكلها، والرجل دموعه تنحدر.
وساحات الفداء تبث الدموع هذه…
…
كان دكتور بكري يحدث دكتور مرحب وهو يمشي بين الجثث… جثث جنوده.
قال: الجثث هذه بقاؤها هنا يهدد وجود الجنود الأحياء… مشهدها ورائحتها تصبح خطراً حقيقياً.
وكان هذا يلقي قائد منطقة بحري الفريق نصر الدين، وكان ثالثهم طباخ إثيوبي…
وكانت الدانة الأولى تسقط على سقف المستشفى، والساعة كانت الحادية عشرة ليلاً… بعدها الصراع الذي لا نوم معه يبدأ.
لكن مشروع سحب الجرحى والشهداء كان يستمر… وسلاح الإشارة يصبح هو الطرف الآخر.
لكن قطع الطريق ما بين الموقعين كان هو الموت المؤكد.
كان القصف الدقيق يعني أن الدعم يعرف كل متر في المستشفى، لكنه كان يجهل وجود باب صغير غرب المستشفى. والباب هذا كانت نقالات (وحتى الأخشاب وعليها الجرحى) تعبر منه.
كان الفريق نصر الدين قد اتصل بدكتور مرحب ليقول:
“لا نستطيع الوصول إلى أم درمان… القناصة يملكون كل الطرق”.
كان برجان اثنان على شاطئ بحري غرب الوابورات، وبرج العمارة الكويتية مراكز تجعل القناصة يمسكون بخناق المنطقة تماماً.
وكان الرائد عمر الشيخ الذي ينقل الجرحى واحداً ممن اخترقتهم رصاصات القنص (الرصاصة تخترق كتفه الأيسر وتخرج من الخلف، لكنه يستمر في القيادة ويفلت مع الجرحى الذين ينقلهم).
وبعدها يتلقى الجراحة التي لها “بنج غريب”.
الجراح العميد جمال يقول له:
“سوق… أقطعك دون بنج”.
والمدهش أن الأطباء هناك يستخدمون “البنج النفسي” هذا لإثارة النخوة عند كل مصاب. والمصاب يقول للطبيب:
“اعمل اللي عايزو…”
ولما كانت العمليات تُجرى دون بنج كان دكتور سامي جلال ودكتور مصطفى يتسللون بكل وسيلة من شمبات وحتى القيادة للاشتراك في الصراع.
وكلاهما يظل يعمل ليومين ليل نهار، والجرحى على الأرض في موقف شندي.
وكان دكتور جمال ودكتور وضاح قد سبقا إلى هناك.
لكن التسلل لم يكن يكفي، والجميع يقررون نقل الجرحى “علناً” ويشقون بهم متاريس الدعم.
وعدد من دبابات الصرصر، وعدد من العربات التي تحتمي بالصرصر تندفع وهي تحمل الجرحى…
اليوم الثامن كان البقاء بعده مستحيلاً في مستشفى أمل.
كان بكري منهمكاً في العمليات تحت ضوء البطاريات، لما اقتحم الدعم المستشفى…
وخرجوا… لكن كان لابد من العودة إلى المستشفى لأن المعدات والأدوية هناك. ودون معدات يصبح نقل الجرحى عملاً لا فائدة له.
والأطباء ينطلقون تحت الظلام على الأقدام ويسرقون ما يستطيعون من الأدوات… مرة… ومرة… وثالثة. وكان العميد طبيب مجاهد وآخرون يستعدون لجولة أخرى.
كان (بعض) المشهد هو هذا…
لكن العدو المخيف كان هو الجوع… والعدو هذا كان يتمدد ويتمدد…
ونسوق الحديث عن السوداني حين يقاتل.
إسحق أحمد فضل الله
