لو أنفقتم ما في الأرض جميعاً

في شهر الحرب الأول (2023) كتبت مقالاً قصيراً قلت فيه إن واحداً من أهداف التغيير الذي حدث في السودان في أبريل 2019 هو تشويه صورة الجيش السوداني في أذهان شعبه، حتى تسهل عملية تفكيكه لاحقاً ضمن المخطط الكبير. واستشهدت ببعض الوقائع التي كانت حاضرة في الاذهان وقتها، ومن بينها مقولة “معليش معليش ما عندنا جيش”، وقلت حينها إن أموالاً طائلة صُرفت على هذا البند، بند تشويه صورة الجيش والأجهزة النظامية من شرطة وأمن، حتى تتم شيطنتها ومن ثم تفكيكها تحت عنوان “إعادة الهيكلة”
وخلصت إلى أن واحدة من النتائج التي ستفضي إليها الحرب – وما كنت أحسبها تبلغ هذا المدى من الطول – هو أنها ستكشف للسودانيين حجم المؤامرة على بلدهم وعلى جيشهم، وستكشف لمن كانوا وراء ذلك المخطط كيف أن أموالهم التي أنفقوها ستكون عليهم حسرة، وأن ما أرادوه سيجنون عكسه، وأن الجيش السوداني سيستعيد صورته الأصل دون أن يخسر في ذلك جنيهاً واحداً، دعك عن الدولارات أو الدراهم.

الآن، ونحن في نهايات عام الحرب الثالث، تتجلى علينا نِعمٌ من الله لم نكن نستطيع بلوغها لولا فضل الله وبركة الدماء الطاهرة التي ارتوت بها أرض السودان والتي أدرك أصحابها منذ أول يوم للحرب، أنها حرب وجود، فقدموا أنفسهم طائعين إلى وحدات جيشهم ووقفوا في صفه دون أن يشير إليهم أحد، ثم لحق بهم مَن تداعوا تلبية لنداء القائد العام فكانت ملحمة المقاومة الشعبية والاسناد المدني التي يعرفها الجميع.

ثلاثة شواهد أخرى يمكن أن نضيفها إلى الشاهد الأول، وأقول بكل ثقة أن أمر حدوثها لو ترك لنا نحن أهل السودان وحدنا، بقدراتنا المادية المتواضعة، لما أنجزنا منه معشار ما تمّ بالفعل، وأولها هو كشف حقيقة الأطوار التي بلغتها قيادة الدعم السريع، كقوة صلبة، في توظيفها مخلب قط للتحكم في مصير السودان وإعادة هندسته، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حتى يسهل ابتلاعه، وقيمة هذا الاكتشاف لا تكمن فيه بحد ذاته، وإنما في تراكم الحجج المؤيدة لما أعلنه رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالأمس، من أنه لم يعد هناك أية فرصة للتعايس مع الدعم السريع مرة أخرى، بمعنى أن ما كان قبل 15 أبريل 2023 لن يكون ما بعدها، وهذه المحصلة لم تكن لتأتي لولا استمرار الحرب !!

قد يبين الشاهد الثاني هذا، كيف أن دعاة “لا للحرب” تمّ توظيفهم، بوعي منهم أو بدونه، في ما يمكن أن نطلق عليه مخطط “المحافظة على صورة الدعم السريع” الذي قد قدم نفسه في أيام الحرب الأولى باعتباره “حامي المدنية والديمقراطية”، ولكن كلما استمرت الحرب تزداد وتتكشف أنواع الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها. وتتبدل شعاراته وتتحول إلى خليط من الحقد والعنصرية، فينفر الناس منه ويفرون فرار السليم من الأجرب، بل تتسع دائرة الجرائم ونطاقها حتى تصبح المادة الرئيسية في أضابير الصحافة العالمية والمنظمات الحقوقية الدولية ومجلس الأمن الدولي.
وربما يكون السبب وراء إلحاح القوى التي تسمى نفسها مدنية وتتبنى شعار “لا للحرب” هو حرصها على ما تبقى من صورة قيمية مزعومة للدعم السريع، لكن المحصلة النهائية لهذا الشاهد الثاني هو أن الأموال التي صُرفت بسخاء، وعلى مدى ثلاث سنوات، لتحسين صورة الدعم السريع والقوى السياسية التي تقف بجانبه، ذهبت كلها هباءً منثوراً.

أما الشاهد الثالث، والذي أتانا كله هبة من الله، فهو كشف حقيقة النوايا الإماراتية تجاه السودان، فما كشفته هذه الحرب أكد للجميع، بمن فيهم أصدقاء الإمارات، أن عمر هذه الحرب، التي أهلكت الحرث والنسل، ودمرت البنى التحتية للبلاد، وشردت الملايين، وارتكبت فيها كل الجرائم والموبقات، ما كان ليبلغ عاماً واحداً لولا المدد المتصل من المال والسلاح والمرتزقة، الذي وفرته دولة الإمارات عبر عدد من دول الجوار السوداني، وهو مدد ما يزال متصلاً.
وعلى الرغم من أن شواهد هذا الدعم، قد وثقتها وكشفتها الصحافة الاستقصائية العالمية، وأقرت بها مؤسسات دولية وبرلمانات في دول حليفة للإمارات، بينها الكونغرس الأمريكي، إلاّ أن اللافت للنظر هو إصرار الإمارات على الإنكار، بل الذهاب أكثر من ذلك والظهور في ثوب حمامة السلام التي تصر على أن تكون وسيطاً “بين السودانيين” رغم أنفهم !!
وبمثل ما انكشفت حقيقة الدعم السريع، وسيخرج غير مأسوف عليه من حياة السودانيين ومؤسساتهم العسكرية، سيتراجع دور الإمارات في السودان وستخرج من قاموسهم كدولة “شقيقة وصديقة”، وسيعرف العالم كله أن وجه “التسامح والتعايش” الذي ظلت تظهره يخفي وراءه طموحاً استعمارياً ورغبة في الهيمنة وسلوكاً متعجرفاً لا يوجد له مثيل إلا ذلك الذي عند دولة الكيان الصهيوني، ومن المؤكد أن الأموال التي صرفتها دولة الإمارات على مدى عقود من الزمن، ذهبت هي الأخرى هباءً منثوراً، وستحتاح أن تنفق أضعافها لكي تستعيد بعضاً من بريقها المفقود، خاصة عندما تبدأ محكمة الجنائية الدولية، وغيرها من المحاكم الدولية، في نظر الشكاوى التي سيرفعها أولياء الحق الخاص ضد الدولة التي كانت السبب الرئيسي فيما حل بهم من جرائم وانتهاكات.

والشاهد الرابع، الذي أهدته لنا الحرب والأطراف التي أشعلتها، وهوعندي الأهم، هو سقوط الفاشر في أيدي المليشيا، فعلى الرغم من مرارة ما حدث، بكل أبعاده الإنسانية والعسكرية، إلا أن ما حدث أهدى أهل السودان فرصة ما كانوا سينالونها لو أنفقوا كل ما بين أيديهم … كيف؟
حين ننظر إلى الوجه الآخر لهذه المأساة، ونتذكر أن أحد أهداف هذه الحرب هو تفتيت السودان من خلال زرع الشقاق والكراهية بين أبنائه، ونتابع يوميات النزوح لأهلنا الذين أتوا من الفاشر إلى ولايات الوسط والشمال، والاستقبال الذي وجدوه عند أهلهم في “الولايات النيلية”، سيتبين لنا أن القدر أهدى أهل السودان الفرصة الأثمن في التاريخ الحديث، وفتح أمامهم باباً واسعاً لإعادة اكتشاف أنفسهم، عليهم أن يلجوا إلى المستقبل من خلاله لإعادة تأسيس دولتهم، كما ألمح رئيس مجلس السيادة الانتقالي في حديثه بالأمس.

Exit mobile version