نسوق هذا العنوان الذي ذهب في الناس حكمة ومثلاً بين الأنام، من وحي محاضرة للبروفيسور جون ميرشايمر عن أسباب خسارة أوروبا وأمريكا للحرب في أوكرانيا. وبروف ميرشايمر هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيكاقو والذي يعد كما قالت العرب قديماً ، أشهر من نار علي علم وهو من أشجع الشخصيات الأكاديمية الناقدة للسياسة الخارجية الأمريكية في معية صنوه جيفري ساكس.
يتحدث ميرشايمر في هذه المحاضرة عن ماذا بعد هزيمة أوكرانيا وخسارة أوروبا لرهانها بكسب أوكرانيا بالكامل وهو الهدف الذي جعلته ركيزة استراتيجية لأمنها وأمانها من أي خطر محتمل ينطلق من روسيا. ابتدر الحديث بالقول إن أوروبا لم تدر بعد أنها قد خسرت الحرب ، ليس داخل حدودها ولكنها خسرتها في أوكرانيا وليس في ساحات المعارك بل علي طاولة اتخاذ القرارات، فأوروبا ولسنوات قد جعلت من أوكرانيا خطاً أحمراً لأمنها إذا تم تجاوزه خسرت أوروبا أمنها والآن تتحدث الحقائق وقليلا ما تفعل، بأنها قد خسرت الرهان فالاستراتيجيات الخاطئة يدفع ثمنها المخططون !
يدلل المحاضر علي هزيمة أوكرانيا بخسارتها لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا ومناطق أخري قد تتمكن روسيا من اجتياحها، وبذلك تكون روسيا قد حققت أهدافها في الحرب بخلق منطقة عازلة تبعد عنها خطر حلف الأطلنطي المحتمل أيضاً، الإحتمالات تلك وليدة الهواجس والتي ولدت ما يعرف بتوازن القوى الذي كان سبب حروب أوروبا جميعاً عبر التاريخ. وكانت روسيا تطالب بهذه الضمانة قبل الحرب بعقود بألا يضم حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي أوكرانيا لكي ينام الروس دون هواجس وكوابيس، وفي مقابل ذلك تتعهد روسيا باحترام سيادة أوكرانيا على أراضيها كدولة مستقلة وهو ما تعهد به الرئيس الأمريكي كلينتون للرئيس الروسي بورس يلسن تسعينيات القرن الماضي . والتعهدات اللا-مكتوبة ، تصبح كأحاديث الليل التي تمليها البهجات والنزوات العابرة فيمحوها النهار!
والذي يعرف صلة أوكرانيا بروسيا قد يستوعب ضراوة قتال الروس واستبسالهم من أجل الحيلولة دون انضمامها لحلف الاطلنطي والاتحاد الأوروبي فهي في قرارة دواخلهم جزء أصيل من الأراضي الروسية خاصة الأجزاء المتاخمة لها في الشرق و قد كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي وقبل ذلك كانت علاقاتها بروسيا علاقات ثقافة وتاريخ ودماء مشتركة فناكيتا خروشوف، أشهر رئيس وزراء للاتحاد السوفيتي، أوكراني الأصل وهو الذي أعاد جزيرة القرم إلي جمهورية أوكرانيا ، إحدى جمهوريات الاتحاد في ذلك الوقت بعد أن كان قد انتزعها منها سلفه جوزيف استالين، وميكال غورباتشوف صاحب الغلاسنوست والبروستوريكا اللتين أودتا بالاتحاد السوفيتي وبمنظومة دول الكتلة الشرقية الاشتراكية، أمه أكرانية وكذلك الروائي المنشق والمفكر الكساندر سولجنستين الحائز علي جائزة نوبل للسلام عن كتابه “أرخبيل الغولاق” الذي كشف فيه عن معسكرات العمل السوفيتية الرهيبة وغيرهم.
يقول ميرشايمر إذا انتهت الحرب بتوقيع سلام علي حال الهزيمة التي لحقت بأوكرانيا الآن، تكون أوكرانيا قد فقدت إلي جانب أراضيها تماسك نسيجها الاجتماعي المكون من هجين تمثله مسيحية أورثوذكسية في الشرق وثقافة ولغة روسية، وبين مذاهب في المسيحية أقرب للسائدة في غربها مع ثقافة هي بعض وجدان أوروبا الغربية تشظت بفعل الحرب والاستقطاب المصاحب لها وأصبحت البلاد معترك صراع بين الشرق والغرب، ويرجح الكاتب أنها ستظل ، إن ظلت باقية، مثخنة الجراح بشعب فقد الشعور المشترك بالوطن الموحد وباقتصاد ضعيف وهواجس دائمة. وفي ظل تناقص الاهتمام الأمريكي بأوروبا الذي جعل الصراع العسكري والاقتصادي والتقني مع الصين في جنوب الباسفيكي أولوية قصوي ، عاملا يحتم علي أوروبا الإنفاق الهائل علي أمنها علي حساب رفاه شعبها ونموها الاقتصادي حتي لو تلقت بعض الدعم الأمريكي وهو في حده الأدني سيكون متاحاُ.
أوردت هذا الكلام في محاولة لإسقاط مآلات ما حاق بأوكرانيا من حرب استخدمت فيها كمعتركً فقط من قبل محيطها الإقليمي ومن قبل المحيط الدولي الذي تمثله أمريكا وحلفاؤها في الاقليم ومن وراء الاقليم لتحقيق غايات بعينها لتلك الدول لا لأوكرانيا وشعبها ، آملاً أخذ العبرة بأن لا نصير في السودان إلي ما صارت إليه أوكرانيا أو ما ستصير إليه، ساحة قتال لا ناقة لها فيها ولا جمل . أوكرانيا في خط تماس بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية الذي ظل يشتعل لاعتبارات عرقية ودينية وثقافية فيتسبب في هلاك الملايين مرة باسم الخلاف المذهبي في المسيحية ومرة باسم الأيدولوجيات الشيوعية والليبرالية ولكن يظل لحمته وسداه العرق والدين والتاريخ.
حساب الأطماع الآنية أو بعيدة المدي قليل. وهذا الأخير تجريد لمخاوف الأمن . وجه الاختلاف بيننا وبين أوكرانيا في محنة الاستهداف أننا دولة غنية بالموارد يسيل بسبب خيرها الوفير اللعاب، و التي عجزنا عن الإفادة منها فنحن في ذلك أشبه ببلد مجاور هو الكونقو، غني بالثروات تداعت إليه الأكلة يحصد خراجه الآخرون يحمل علي متن الطيارات والسفائن الضخام لصناعة شاشات المرح في كلمات المفكر والناقد البريطاني الساخر ويل سيلف Will Self وأهل البلاد يعيشون المسغبة والحروب والفاتكات من الأوبئة والأمراض . ذاك مصير لا يرضاه الأسوياء من الناس في بلد واحد مهما تباينت رؤاهم حول كيفية حكمه وإدارة مؤسساته فمجرد بقائه أوجب من خلاف واختلاف، ذلك حب من جبلوا علي حب الأوطان.
والعبرة التي أريد أن تؤخذ من الآن والحرب الضروس لا تزال تحصد الأرواح وتدمر الممتلكات، مأخذ الجد الذي لا هزل فيه هو العمل المقدس لوقفها بكل السبل سوى السبل السهلة المملاة المفخخة بالوعود الكاذبة التي يبذلها موظفون دوليون سيغادرون مواقعهم غداً والتي تبقي على أهدافها القريبة والبعيدة وذلك بإعمال النظر ، بالتأمل في حجم التدخل الخارجي ومراميه والذي اهتبل الفراغ في السلطة بعد سقوط حكومة الإنقاذ فتنادى الاقليم المتربص أصلاً وحلفاء الاقليم من وراء البحار لإقامة نظام للحكمً يحقق مصالح تلك الدول.
ولا نلقي القول علي عوانه فقد قال ذلك السفير الأمريكي الأسبق ومبعوث الحكومة الأمريكية الأسبق دونالد بوث . ولهذا صممت الفترة الانتقالية وما بعدها بتدابير غاية في الدقة والإتقان لتحقق التمكين من رقبة السودان واستبعاد احتمالات أي مخاوف علي تلك المصالح.
فقد قال دونالد بوث نصاً صريحاُ لا إيماءا ولا استنتاجاً: إن مستقبل السودان لابد أن يراعي مصالح حلفاء أمريكا في الاقليم بما في ذلك أمن اسرائيل! هكذا وكأن السودان أرضا بلا شعب. وهذه أشبه باستراتيجية أوروبا في أوكرانيا بجعل السودان ساحة للموت إذا لزم الأمر لتحقيق مصالح الغير.
لذلكً جئ بالرباعية والثلاثية وشمل هذا الجمع العرمرم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والإيغاد ودول الرباعية وأمريكا تحت غطاء مساعدة السودان للانتقال من الشمولية للديمقراطية بينما اجتاز السودان هذا الامتحان مرتين في تاريخه عقب سقوط عبود في 1964وعقب الإطاحة بنميري في 1985 ودون تدخل صديق أو عدو فأصبح أستاذا في ذلك يحذو حذوه الآخرون في شؤون الانتقال من الديكتاتورية إلي الديمقراطية. ذلك ولأن الأمر في حقيقته كان فرصة لتصميم سودان جديد غريب الوجه واليد واللسان على أهله يحقق مصالح الآخرين.
ولكي لا يفلت من ذلك المصير وضع له دستور سمي انتقالي كذبا ، فقد كان ذلك المسمي ب “الإتفاق الإطاري” يحمل ملامح دستور دائم للسودان. ورغم أن كلمة اتفاق تعني أن يتواضع عليه الموقعون جميعاً طواعة واختيارا لكن جعلوا التوقيع عليه جبراً (زندية) وإلا يجب تحقيقه بالقوة عبر الحرب والتي اندلعت بالفعل في 15 أبريل 2023. وبتلك الصفة يصبح الأمر المدبر بليل من الخارج إخضاعا تاماً لإرادة السودانيين كان يجب أن يواجه من الجميع بعبارة الزعيم الأزهري في حق الجمعية التشريعية التي فرضها الاستعمار، يرفض “ولو خلا من كل عيب” .والغريب أن هذه الإملاءات البغيضة تختم بعبارة مخاتلة مستخفة بالعقول : الحل ما يصنعه السودانيون وحدهم ! وكان الأحري أن تكمل الجملة بعبارة (وفق ما تقدم!!).
علي السودانيين الآن أن يتأملوا محاولة فرض الإرادة الأجنبية المسماة بالإطاري و ما فعلته ولا زالت تفعله بالسودان من كوارث أوشكت أن تفضي لإفنائه دولة وشعباً وليحذروا كل الحذر من استمرار هذا التدخل السافر المحاط بالهدن والحيل الماكرة ، الحذر خشية أن يصبح السودان ساحة دائمة للصراع الدولي والاقليمي ومعتركاً لتصفية الحسابات فتلكً هي الوصفة التي تشبه ما حل بأوكرانيا ، نسيج اجتماعي ممزق مشتت الولاءات واقتصاد منهار أو شديد الضعف يفتح الباب واسعاً للفساد والتهريب ونهب الثروات لأن البلد الذي يصبح ساحة لصراع الآخرين، بحرص الآخرون لكي يتمكنوا من رقابه، بأن يدقوا بين مكوناته عطر منشم ليقتتلوا دونه.
صحيح أن ذلك وقع بالفعل ونعيشه الآن لكن يجب أن يتوقف بأن يتنادي العقلاء بمشاربهم المتباينة وأن يفاضلوا بين الإبقاء علي وطن يختلفون علي إدارته غداً ولكن يستميتون باذلين المهج والأرواح للابقاء علي وجوده لا تمنعهم عن ذلك البذل معتقدات ولا أعراق.
غالب أهل السودان محافظون بدرجات متفاوتة وأنا في زمرتهم تشجيني أهازيجهم وتطربني إيقاعاتهم وتمتلئ جوانحي وروحي بتلاواتهم العذب لآي الذكر الحكيم، ومنهم تقدميون تروق لهم طرائق العيش السائدة في الغرب وذلك لا يحرمهم حقاً من حقوقهم، والأوفق والأسلم أن تتناطح التوجهات و الرؤي عبر صناديق الإقتراع فنرضى جميعاً بما ينتج عن ذلك. ذلك ما نعرفه من حكم الديمقراطية . إقصاء الآخر وعزله وخيم العواقب لا يبقي أرضاً ولا شعباً . ولا يزال تيار في الحداثيين يقبل بذلك التدخل فقط لفرض نمط العيش وأساليبه السائدة في باريس ولندن ونيويورك علي شعب السودان المحافظ والمتسامح أيضاً، بالحديد والنار دون اعتبار لعواقب ذلك وإن عظمت، وربما لا يدري كثيرون كيف وصل دونالد ترامب للرئاسة . وصل لأن تيارا صغيرا في الحزب الديمقراطي يدعي التقدم ويتسمي بذلك (ديمقراطيون تقدميون progressive democrats) فرض رؤاه علي حزب عريق غدا ملاذا للأقليات وللتسامح الديني والعرقي قوامه تيار عريض من الأمريكيين المعتدلين الذين يدركون أن جل الأمريكيين يمقتون التطرف ويحترمون قيماً حسنة في شأن الأسرة والعلاقات الإجماعية مستمدة من المسيحية لا يمكن القفز عليها ، ضاعت أصواتهم في خضم صراخ تلك الأقلية (التقدمية) فانحاز الناس لترامب الذي يعانون منه مع جل العالم انحيازاً لقيم فاضلة.
ولغاية الإبقاء على السودان وعلى السودانيين باتجاهاتهم المتباينة ينبغي الإدراك بأن ذلك واجب الجميع دون فرز .
وللأسباب المعروفة التي استعرضنا بعضها في ثنايا هذه السطور أعتقد جازماً أن الكيد لن يتوقف إلا ليثور مجددا كما البراكين فلننهض له بما يلزم فسيظل قدرنا في هذا المكان من الجغرافيا، اليقظة الدائمة وذلك قدر كل الدول الغنية بمواردها ، وقد علمتنا هذه الحرب عمليا: معني التطهير العرقي بالقتل علي الهوية والإبادة الجماعية فقط بتوفير سيارات الدفع الرباعي التي تحمل أدوات الموت تتهاطل كالبرَد علي المدن والقري الآمنة فتحيلها قاعا صفصفا ومدائن أشباح كما نري بأعيينا وكما رأي ويري العالم ” المتحضر” “والإنساني” فلا يري عتاته وطغاته في ذلك إلا أضرارا جانبية (كولاترل دامج) مصاحبة لكل غاية بعيدة ترجى، خيّرة كانت أم شريرة. وأصحاب الضمائر الحية الذين خرجوا من كهف أفلاطون كالسيد جون ميرمايشر والسيد جيفري ساكس وملايين الشباب في كل مكان فاتضحت لهم الرؤية وزالت الغشاوة عن أبصارهم فذرفوا سخين الدمع علي مأساتنا وخراب ديارنا لكن ثاقب نظرهم الذي تخطى حجب التضليل والكذب البواح والألاعيب التكنلوجية لم يغن عنا بشاعة التقتيل والإخراج القسري من دورنا والإهانة وهتك الأعراض. وترياق ذلك ومنعه من التكرار نفعله نحن لا غيرنا فما حك جلدك مثل ظفرك. نفعله بمزيج من عسكرة شاملة للشباب والشابات وجيش رشيق مزود بما يلزم من العدة والعتاد والمعارف الضرورية مع حنكة وبكياسة هي السياسة تديرها المؤسسات المنتخبة المواكبة لمعارف العصر والدارية بالجيوبولتيك لتتمكن من السير الآمن في حقول الألغام والمتفجرات. تلكم هي شروط البقاء لا غيرها لبلد حباه الله بالثروات من كل نوع وله سابقة راسخة في صناعة الحضارة من قديم.
وأذكر في الختام بصيحة أطلقها شاب أسود موهوب صغير البنية عظيم الموهبة يدعي أسبايك لي Spike Lee ، قبل عقود خلت صاغها في فيلم سينمائي يعالج فيها قضية العنصرية في بلده سماه ” أفعل الصحيح Do the Right Thing لأنك إن لم تفعل فعلوا بك الأفاعيل ودموع الحزانى علينا إن لم تتحول إلي أفعال لدرء التآمر عنا تصبح كابتسامة الساخر الشامت فينا.
الدكتور الخضر هارون
