إبراهيم شقلاوي يكتب: العربية/ الحدث .. من الإيقاف إلى إعادة الثقة

قرار رئيس الوزراء بإعادة مدير مكتب قناتي العربية والحدث لينا يعقوب إلى عملها، خطوة جيدة تكشف عن تحولات دقيقة في إدارة السلطة والسياسة الإعلامية داخل البلاد. هذا القرار جاء ليطوي صفحة إيقافها السابق الذي أصدره وزير الثقافة والإعلام، وهو قرار بدأ حينها أكثر انفعالًا من كونه تعبيرًا عن سياسات الحكومة التي تبحث عن تواجد في الفضاء الإعلامي الإقليمي والدولي بما يعزز سردياتها المتعلقة بالحرب.

الاتصال الشخصي لرئيس الوزراء د. كامل إدريس بلينا يعقوب تجاوز الاجراء المعتاد، ولعل في ذلك رسائل ضمنية : أن ملف الإعلام الخارجي لم يعد شأن وزارة الثقافة والإعلام وحدها، وأن السلطة العليا تنظر من زاوية أخرى في القضايا الحساسة التي تؤثر على الصورة العامة للبلاد .

رد لينا جاء باحتفائية لا تخلو من سخرية مبطنة من الوزير، جمع بين الشكر والغمز المتحفظ، أظهر إدراكها لمغزى القرار، مع الإشارة إلى أن خطوات الإصلاح المهني لم تُغلق الباب بعد أمام مناقشة سياسات الوزارة.

كذلك القرار أعاد طرح أسئلة مؤجلة حول طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والإعلام وحدود تفويض الوزير، وحدود المهنية، وموقع الصحافة في معركة الرواية التي أصبحت أحد أهم خطوط الاشتباك في الصراع.

فالخطوة الأخيرة لرئيس الوزراء لم تُقرأ بمعزل عن القرار السابق الذي أصدره وزير الإعلام خالد الاعيسر بإيقاف لينا وسحب تصاريحها، وهو قرار كان محمّلًا بتبريرات تتراوح بين الحديث عن مخالفات مهنية، وبث معلومات حساسة، وتضليل للرأي العام. وبين قرار الإيقاف وقرار الرفع تمددت فجوة السلطة، وظهر بوضوح أن مقاربة الحكومة لإدارة الإعلام ما تزال هشة، ومتوترة ، وأن آلية صنع القرار متأرجحة بين المؤسسية والرغبة في تطويع السياق لأغراض سياسية لا تقبلها مهنية الإعلام .

لكن محور الجدل لا يقف عند حدود الاتصال ولا خطاب لينا، بل يتسع ليشمل ربما ملامح سياسة تحريرية جديدة بدأت قناتا العربية والحدث في اعتمادها تجاه السودان. ويمكن قراءة هذه التحولات من خلال ثلاثة مؤشرات أساسية:

أولًا: الحوار الخاطف الذي أجراه فريق القناة الموفد إلى بورتسودان مع رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، والذي استغرق عشر دقائق، لكنه حمل عددًا من الرسائل السياسية الواضحة، بعضها يتعلق بإعادة تعريف موقع الجيش في المعركة، وبعضها الآخر موجّه للإقليم والمجتمع الدولي حول موقف السودان من المليشيا واشتراطات السلام .

ثانيًا: مرافقة فريق القناتين للبرهان في جولة ميدانية، كان أبرز مشاهدها التدافع الشعبي العفوي في سوق صابرين، وهو مشهد قدّم سردية مغايرة لروايات أخرى كانت تبرز العزلة السياسية والشعبية للقيادة. وقد ساهم هذا التناول الإعلامي في إعادة صياغة جزء من المزاج العام للسودانيين .

ثالثًا: توقيت عودة يعقوب، الذي يأتي متناغمًا مع هذه التحولات، ليطرح فرضية أن القناتين تعيدان تموضعهما في الساحة السودانية، مستفيدتين من تحولات الحرب، ومن رغبة أطراف داخل الحكومة في طرق أبواب الإعلام الخارجي، برؤية جديدة تساهم في الإعداد للمرحلة القادمة.

في الجانب الآخر من المشهد، تبدو إعادة فتح الباب أمام العربية والحدث خطوة تُهيّئ مناخًا لتحرّك دبلوماسي أكبر تشكّل ملامحه مبادرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لوقف الحرب. فالمسار السعودي المرتقب يحتاج إلى مساحات هادئة، وإلى لغة أقل توترًا بين الخرطوم ومراكز النفوذ الإعلامي التي تعبّر عن اتّجاهات سياسة المملكة العربية السعودية.

ومن هنا يصبح استرجاع العلاقة مع القناتين جزءًا من إدارة المناخ لا إدارة الإعلام. فالرياض التي تتحرك نحو تسوية معقّدة، تحتاج إلى بيئة سودانية تسمح بتمرير رسائلها دون ضوضاء، وتحتاج إلى جسور مفتوحة تُترجم ما تريد أن تقوله وتُهيئ الأطراف المحلية لاستقبال خطواتها المقبلة.

في المقابل، يبدو أن الصحافة السودانية – بكل أسف – عاجزة عن التقاط خطورة المرحلة. تنساق كل أسبوع وراء قضية سطحية تفرضها الوسائط الرقمية وربما جهات استخبارية، من غياب رئيس الوزراء إلى التمثال إلى العلم إلى الذباب في بورسودان وملاحقة صحفي بالطرد من المدينة.

بينما تُدار المعركة الكبرى في ميدان آخر تمامًا: ميدان الرواية، و التضليل الإعلامي ، والصراع على الشرعية وفرض الوصايا الدولية. هذه القضايا الصغيرة لا تهبط على الرأي العام مصادفة، إنها جزء من هندسة دقيقة مرتبة بحرفية عالية لصرف الأنظار عن ملفات الحرب وتحدياتها.

هكذا، وبحسب #وجه_الحقيقة يتحول قرار رئيس الوزراء إلى صفحة ضمن كتاب سياسي تمارس فيه كل الأطراف دورها: الحكومة في استعادة ثقتها مع الإعلام، والقنوات في إعادة تعريف دورها، والسعودية في خلق المناخ المناسب لمبادرتها.

في هذا المسرح ، يظل الإعلام أداة استراتيجية يصوغ الرواية ويثبّت الرسائل، ويعيد ترتيب المشهد بما يمهد لأي مبادرة لإنهاء الحرب. العربية /الحدث من الإيقاف إلى إعادة الثقة، تتبدي تعقيدات المرحلة، ويصبح لزامًا على الإعلام السوداني أن يلتقط عمق الخطوة و الخطورة ويواكبا التحولات بموضوعية، ليكون شريك حقيقي في صياغة الاستقرار وحماية أمن و مستقبل البلاد.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأحد 7 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

Exit mobile version