أشجان كابول… وسجادة كرزاي

كانت الطائرة تتجاوز سلسلة جبال شاهقة واحدةً تلو الأخرى في الطريق إلى كابول وكانّها تتصفح كتباً في تاريخ هذا البلد الحافل بأحداثه.. بدت أصوات المحركات كمن يستدعي طبول انتصارات محاربيها على غزاة كثر مروا من هنا لبلد لم يبق فيه موضع لضربة سيف أو طعنة رمح، فيأتيها من خراسان القديمة ومن بلخ صوت جلال الدين الرومي أن صبراً .. فعبر الجرح يدخل النور…

مايكروفون الرحلة يعلن للركاب أننا على مقربة من مطار حامد كرزاي الدولي .. تفرست في وجوه ركاب الطائرة.. بعض أفغان وتجار هنود وموظفون دوليون يكثرون عادة أوان الأزمات .. شاب هبوط طائرة الخطوط الجوية الأفغانية أريانا، التي أقلعت بنا من نيودلهي، ارتطام بعنف بمدرج الهبوط لم يأبه به أحد في بلد وسم العنف وتناسل الحروب قسماته ، بينما كان الكابتن يعلن الوصول متمنياً اللقاء مع الركاب في رحلة أخرى لأريانا التي تعني “أرض النبلاء”..

على جدران حوائط مطار متواضع ليس صعبا قراءة قصة بلد غني بتاريخه وموروثاته الثقافية وامتداداته الحضارية وأدواره الهامة في السياسة والتجارة وطريق الحرير، وكعازل بين القوتين الروسية والبريطانية، وصراعات القوى الكبرى والحروب الداخلية التي دارت فيه ونهاية الحكم الملكي والاحتلال السوفيتي والمقاومة وطالبان والتدخل الأمريكي والانسحاب وعودة طالبان …

في هذا المطار كانت الولايات المتحدة تجلي عناصرها ويختبىء بإحدى غرفه الرئيس أشرف غني بحثاً عن وسيلة هروب من كابول التي دخلها مزهوا ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم طالبان…

أعود لرحلة أريانا فأجد في استقبالي أحد منسوبى وزارة الخارجية الأفغانية التي أبلغناها عبر سفارة أفغانستان بنيودلهي وأنا سفير لبلادي بها تكليفي بالسفر لكابول وتسليم رسالة تعاضد وتآزر من الرئيس السابق البشير للرئيس حامد كرزاي بعد استقرار الأوضاع فى ذلك البلد وقتها.. كان سفير أفغانستان بالهند الذي أشرف على ترتيبات مهمتي بكابول هو الصديق مسعود خليلى، أحد أقطاب “تحالف الشمال ” ومن المقربين لأحمد شاه مسعود بل كان متواجداً معه لحظة اغتياله ، وقد نجا السفير مسعود خليلي بأعجوبة من الموت إلا أنه فقد إحدى عينيه وأُصيب إصابة بالغة في قدمه، وكان القائد أحمد شاه مسعود “أسد بانشير ” قد أغتيل بواسطة عناصر إنتحارية من تنظيم القاعدة تخفت في هيئة صحفيين لإجراء مقابلة معه، ولتنفجر الأجهزة بعد دقائق من بدء المقابلة في التاسع من سبتمبر 2001 أى قبل يومين من أحداث الحادث عشر من سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية..

كان استقبال مندوب الخارجية الأفغانية لشخصي ودوداً وطيباً قبل أن يأخذنا لأحد الفنادق القليلة بالمدينة للإقامة خلال المهمة….بدت كابول كمن يحاول التعافي من مرض طويل وقد أقعدها الدمار في العديد من الأحياء التي لم تجد رحمة من أمراء الحرب، وقد أتيح لي زيارة ” لوياجيرقا ” ، أى البرلمان ، وزيارة ممثل الأمم المتحدة ورئيس بعثتها بأفغانستان الأخضر الإبراهيمي ونائبه مواطننا الاستاذ أمين مكي مدني…

وحده “جيكن استريت ” وهو شارع طويل يتوسط سوقها الكبير كان نابضاً بالحيوية وقد امتلأ بملبوسات وبضائع فاخرة ذكرتنا بسوق ” بكارا” الغني بموجوداته وبضاعته وتنوعها بمقديشو على أيام الحرب الأهلية وزياراتنا لها في إطار جهود “لجنة القرن الأفريقي بشأن الصومال” للتوسط بين فصائله و خاصة عايديد و علي مهدي ….كما توقعت فقد كان المشهد الأمني خارج وداخل وحول المقر الرئاسي مشددا ، كالعادة، يوم مقابلتي للرئيس كرزاي الذي استقبلنى بحفاوة وأفاض في التعبير عن تقديره لمحتوى الرسالة وعلاقات بلاده مع السودان ، وبدا فرحاً وهو يقوم في ختام المقابلة باهدائي قطعة سجاد أفغاني جميل….

تدور الأيام.. ويعيد التاريخ رسم بعض فصوله وتعود طالبان بانسحاب أمريكي لافت ..ويقود أحمد مسعود نجل القائد أحمد شاه مسعود حركة مقاومة تسمى”جبهة المقاومة الوطنية ” ضد طالبان، وتنقل الأخبار حدوث تعاركات حدودية بين باكستان وافغانستان بينما تتواصل جهود لاحتواء توتر بين افغانستان وطاجيكستان على خلفية احتضان دوشانبيه لعناصر معارضة لطالبان…تعود أفغانستان لواجهة الأحداث وتعود معها ذكرى زيارتي تلك بينما لاتزال خطوطها الجوية تقاوم المطبات الجوية والحظر على سفرياتها من قبل الاتحاد الأوروبي، أما كرزاي فقد انتبذ مكاناً بكابول كشخصيّة اجتماعية دون التدخل في منعرجات السياسة، وأما

سجادته الهدية فقد تم نهبها من منزلي ضمن العديد من المقتنيات الأخرى مؤخراً مثل حالة الآلاف غيري في بلدي الحبيب، ولم يكن هنالك تصويراً فوتوغرافياً لمقابلتي مع الرئيس الأفغاني فقد تم حظر ذلك منذ حادثة اغتيال أحمد شاه مسعود واتعاظاً بها، فالعالم لايزال مكاناً غير آمن ….فوامعتصماه….

السفير عبد المحمود عبد الحليم

Exit mobile version