بين دعم الضحايا وتسليح الجلادين كيف اكتشفت برلمانات أوروبا أن أسلحتها تغذي فظائع دارفور ؟

“المحقق” يفتح الملف: بين دعم الضحايا وتسليح الجلادين كيف اكتشفت برلمانات أوروبا أن أسلحتها تغذي فظائع دارفور ؟
لم تعد صور الدمار في السودان ومآسي النزوح والجوع مجرد مشاهد تثير الحزن في العواصم الأوروبية لقد تحولت خلال أسابيع قليلة إلى دليل اتهام متداول بين أروقة البرلمانات، اكتشف نواب في لندن وبرلين وبروكسل أن ثمة رحلة غامضة تقطعها الأسلحة التي تخرج من مصانع بلادهم وتتوقف في موانئ حليف خليجي لتنتهي في أيدي مليشيات الدعم السريع المتهمة بارتكاب مجازر وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتهجير ممنهج في دارفور

في هذا التحقيق يرسم موقع “المحقق” الإخباري خريطة التحول الدراماتيكي في الخطاب الأوروبي من دبلوماسية التحذير الهادئ إلى موجة برلمانية عابرة للحدود تفتح ملفات التسليح.
تهدف هذه الموجة إلى تحويل الغضب الأخلاقي إلى عقوبات وضغوط دولية ملموسة نتتبع هذه الرحلة من خلال جلسات الاستماع والتصريحات العلنية والتحول في السياسات ونكشف كيف أجبرت فظائع الحرب في السودان الجميع في أوروبا على إعادة النظر في سلوك حلفائهم ومسؤوليتهم

تحقيق: طلال مدثر

داخل وستمنستر تحقيق برلماني حارق يكشف طريق الأسلحة البريطانية إلى ميليشيات السودان:

شيء تغير في ردهات البرلمان البريطاني مؤخراً، النقاش حول السودان لم يعد ذلك الحديث الرسمي المحافظ عن القلق والدعم السياسي، لقد تحول إلى شيء أشبه بجلسة تحقيق علنية ساخنة، و بات النواب أنفسهم يوجهون أسئلة محرجة لحكومتهم كيف: انتهى سلاح صُنع في بريطانيا بين أيدي مقاتلي الدعم السريع في دارفور؟
السيناريو الذي يكتشفونه خطير وبسيط في الوقت ذاته، يبدو أن هناك طريقاً مختصراً وسرياً للتسليح يمر عبر حليف تقليدي في الخليج وهو الإمارات هذا الطريق ينقلب على سمعتهم الأخلاقية كدولة.

المفاجأة أن الجميع تقريبا داخل القاعة غاضبون، انظروا إلى مونيكا هاردينغ وكالوم ميلر من الليبراليين الديمقراطيين، لم يعودا يطلبان بإبداء القلق، بل يطالبان بإيقاف تراخيص السلاح للإمارات فوراً، كلامهما كان واضحاً وقاسياً “لا يمكننا أن نبيع أخلاقنا مع الأسلحة” !!

ولم تتأخر إيلي تشاونز من حزب الخضر فجاءت مطالبها أكثر صرامة: “حظر شامل الآن”. بالنسبة لها ظهور أي قطعة سلاح بريطانية في ساحة القتال هذه هو فشل ذريع للنظام الرقابي الذي يفترض أنهم يطبقونه..
لكن اللعبة اشتعلت حقا عندما دخل لاعب من داخل الملعب النائب ديفيد مونديل من حزب المحافظين رفع سؤالاً واحداُ كان كفيلاً بقلب الطاولة: قولوا لنا صراحة هل الإمارات مجرد محطة وقود في هذه الرحلة أم هي الشريك الذي يقود شاحنة السلاح !!

سؤال واحد كشف أن الريبة لم تعد حكراً على المعارضة بل تسربت إلى صفوف الحزب الحاكم نفسه،
وهذا التحول الدراماتيكي لم يأت من فراغ، فهو يصنع مفارقة تاريخية صادمة لسياسة لندن، فقبل أشهر فقط استقبلت العاصمة البريطانية بترحاب قادة سودانيين مدنيين مثل عبد الله حمدوك وخالد عمر يوسف، كانت داعمة لمبادراتهم السلمية واليوم وبعد أن ثبت أن قنابل صُنعت في بريطانيا قد سقطت على رؤوس هؤلاء المدنيين أنفسهم تحول البرلمان من داعم للحل السياسي إلى محقق في جريمة تسليح الحرب.

الخلاصة التي تخرج بها من قاعات وستمنستر المغلقة لم تعد خافية على أحد، كل هذا الضجيج البرلماني يصل في النهاية كصدى واضح إلى أذن الحكومة .. كفوا طريق التسليح السريع هذا واضغطوا على الشريك الإقليمي الذي يموله،
لقد سئم النواب من أن تكون سمعة بلادهم الأخلاقية هي الضحية التالية في هذه الحرب،
السؤال الذي يلوح في الأفق الآن بكل ثقله بسيط: هل ستستمع حكومة سوناك إلى صرخة برلمانها أم أن تجارة السلاح وعلاقات الإمارات ستكون مرة أخرى هي الصوت الأعلى ؟

بروكسل إدانة الإبادة وإخفاء إسم الممول:
بينما كان نواب البرلمان البريطاني يوجهون أسئلتهم المحرجة في العلن كان المشهد في البرلمان الأوروبي يقدم مفارقة صارخة، صعود لغة إدانة تاريخية لقوات الدعم السريع وسقوط اسم راعيهم المزعوم من نص الإدانة نفسه،
ففي نوفمبر 2025 وقّع النواب الأوروبيون على قرار لم يعد يصف العنف في السودان مجرد اشتباكات أو انتهاكات، لقد استخدم البرلمان للمرة الأولى وبوضوح لا لبس فيه مصطلحات مثل انتهاكات جسيمة ومنهجية، ووصف أفعال قوات الدعم السريع بأنها قد ترقى إلى جرائم إبادة جماعية.

كانت هذه لحظة تحوّل، إذ لم تعد قوات الدعم السريع في الخطاب الرسمي الأوروبي مجرد مليشيا أو طرف في صراع بل جهة متهمة بأبشع الجرائم الدولية.

دعا القرار صراحة إلى عقوبات مستهدفة على قادتها، لكن هذه القوة الأخلاقية اصطدمت بجدار من المصالح الدبلوماسية، فوفقاً لتقارير استقصائية كشفها موقع بوليتيكو وسيمافور فإن هذا الإجماع على الإدانة اخترقه ضغط خلفي مكثف..
في اللحظات الحاسمة قبل التصويت وصلت “لانا نسيبة” وزيرة الدولة الإماراتية إلى ستراسبورغ والتقت سرا بنواب من الكتلة الأكبر في البرلمان الأوروبي، حزب الشعب الأوروبي وبعض ممثلي اليمين المتطرف، كانت المهمة منع أي ذكر صريح للإمارات في نص يتهم بتسليح المليشيا ذاتها التي يدينها البرلمان الآن بأقوى العبارات،
وهكذا ولد القرار بحسّين متناقضين من ناحية ضمير أوروبي متصلب يرفع سقف الاتهامات إلى مستوى غير مسبوق ضد قوات الدعم السريع ومن ناحية أخرى سياسة براغماتية مترددة ترفض تسمية الحليف الذي يُشتبه بأنه يمد هذه القوات بالسلاح ..
عبرت كتلة الاشتراكيين والديمقراطيين عن أسفها لهذا التناقض بينما رحبت الإمارات نفسها بالقرار الذي يدين مُسلّحيها المزعومين
وكانت النتيجة النهائية صفقة سياسية عارية، إدانة الجريمة بأقسى العبارات الممكنة مقابل الصمت الطوعي عن اسم الجاني المساعد .. ربما كان هذا هو الثمن الذي قبلت بروكسل دفعه للحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع حليف غني في الخليج حتى لو كان ذلك على حساب اكتمال الحقيقة في وثيقة تاريخية.

برلين سؤال أكتوبر وصدمة نوفمبر وجنون ديسمبر

في “البوندستاق” بدأ كل شيء بورقة رسمية وأثنين وخمسين سؤالاً مرقماً، في العشرين من أكتوبر 2025 قدم حزب اليسار استجواباً برلمانياً للحكومة الألمانية، لم تكن الأسئلة عامة بل استهدفت الشريان الحيوي للعلاقات، كيف تسمح ألمانيا ببيع أسلحة للإمارات بينما تظهر أدلة على وصولها لقوات الدعم السريع التي ترتكب الفظائع في السودان ، وطالبت بوضوح بتجميد تصدير السلاح فوراً، كان هذا أول اختراق جدي للحجب الدبلوماسي،

لكن صدمة الفاشر عقب ذلك غيرت المعادلة، فبعد أيام من المجزرة في جلسة طارئة بطلب من تحالف الخضر في السابع من نوفمبر انفجر الغضب وانتقل النقاش من الأسئلة إلى الاتهامات المباشرة، هاجمت المعارضة الشراكة الألمانية الإماراتية ووصفتها بالتواطؤ، وفي المقابل تمسك نواب الائتلاف الحكومي بالخطاب الرسمي متحدثين عن مبادرة الرباعية التي تضم الإمارات نفسها كحل وحيد، وكان رد الحكومة الرسمي لاحقاً على استجواب أكتوبر بمثابة الصفعة .. أجوبة عامة وحذرة تتجنب أي إشارة سلبية محددة للإمارات، بدا أن الجدار لا يتحرك،
هنا تدخلت جهود دبلوماسية سودانية حثيثة في برلين ساعدت المعلومات واللقاءات المكثفة التي نظمتها السفارة السودانية في كسر الصورة النمطية، لم يعد السودان مجرد أزمة إنسانية على الشاشات بل تحول إلى قضية سياسية معقدة جذورها في تدفق الأسلحة، ساهمت هذه الجهود في تحول ملحوظ لبعض الكتل البرلمانية التي كانت سابقاً تتبنى سردية سياسية مدنية مبسطة،
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت فضيحة السفينة أفرودايت مع نشر تحقيق صحيفة 《تاز》 الاستقصائي.. انتقلت القضية من البرلمان إلى المحكمة وثائق الشحن المزورة كشفت أن أسلحة ثقيلة كرواتية بتوسط ألماني وإماراتي انتهكت الحظر الدولي المفروض بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1591 متجهة لميليشيا الدعم السريع في 2022 .. أجبر هذا الكشف النيابة العامة في فيلدكيرش على فتح تحقيق جنائي وإن كان بطيئا ومتردداً.. أصبحت الفضيحة ملموسة، الخطأ لم يكن في السياسة فحسب بل في ارتكاب جريمة محتملة .

وفي الرابع من ديسمبر عادت القضية للبرلمان بجلسة جديدة بطلب من حزب الخضر واليسار، حاول حزب اليسار تحويل الزخم إلى فعل مؤسسي فأحال مقترحاته للجان مختصة في الخارجية وحقوق الإنسان والاقتصاد للمزيد من التشريح بينما رفض مقترح الخضر الأكثر صرامة، كانت الرسالة واضحة المعارضة تصر على المضي قدما ولكن النظام البيروقراطي يعمل على احتواء الضرر ..

طوال هذه الرحلة علت أصوات فردية تجسدت فيها تناقض الضمير الألماني، صوت النائب جانسو أوزدمير من اليسار يهاجم وهو يقول: “أمر مخجل حقا أن تبيع ألمانيا السلاح وتشكو من اللاجئين”، وصوت النائب توماس فرويلخ من الخضر يحذر من أن فوضى السودان على بعد ألف ومئتي كيلومتر فقط من أوروبا تعنينا نحن أيضاً..

خرج المشهد الألماني بإحساس مرير .. برلمان استيقظ متأخرا وحاول الصراخ، وحكومة تصر على الصمت .. وقضاء يتحرك وكأنه يمشي في الوحل.. بين هذا الثالوث العاجز ضاعت الحقيقة وضاع الوقت بينما كانت برلين تناقش تراخيص التصدير .. وتيرة التحقيقات كانت دارفور تحترق ربما بفتائل أشعلتها أسلحة مرت من تحت أنوفهم.

عندما تتحول التحقيقات إلى ردود فعل دولية:

لم تكن هذه التحقيقات البرلمانية العاصفة مجرد صراع داخلي في عواصم أوروبية بل كانت المقدمة التي أطلقت موجة ردود فعل دولية رسمية تصاعدت بسرعة لتحديد شكل الصراع الجديد بين الإدانة والمحاسبة ..
قبل أن يرفع البرلمان الأوروبي يده للتصويت في نوفمبر كان مجلس الاتحاد الأوروبي وهيئته التنفيذية قد أطلق صفعة رسمية في أكتوبر ، ففي العشرين من الشهر أصدر المجلس بياناً تاريخياً انتقل فيه الخطاب من القلق إلى لغة الإدانة بأقسى العبارات ، لم يعد الأمر يتعلق بدعم الحل السياسي فحسب بل بات تصنيفاً قانونياً صارماً، “أفعال قوات الدعم السريع في دارفور قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”،
لكن هذا البيان الأوروبي الرسمي اصطدم برد سوداني قاس ومفاجئ ، ففي السادس والعشرين من أكتوبر، نفس اليوم الذي سقطت فيه الفاشر بيد قوات الدعم السريع وسط فظائع مروعة، هاجمت الخرطوم بيان المجلس الذي سبق السقوط بثلاثة أيام ووصفته بالمنحاز والمتحيز والمتسم بمعايير مزدوجة، واتهمت الاتحاد بالتغاضي عن حقيقة استمرار الحصار واستخدام التجويع كسلاح، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وربطت صراحةً بين فشل المجتمع الدولي في وقف تدفق السلاح وبين استمرار المأساة، في إشارة واضحة إلى الدول الداعمة لقوات الدعم السريع ..
هذا الرد السوداني الحاد لم يكن صرخة في الفراغ، فقد وجد صدى قوياً في تحليلات المنظمات الحقوقية الدولية المستقلة، فتقارير هيومن رايتس ووتش ومفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لم تكتفِ بتوثيق الفظائع بل أشارت بأصابع الاتهام مباشرة إلى الممولين وربطت بين استمرار العنف وتدفق الأسلحة من الخارج، نداءاتهم المتكررة بوقف الدعم العسكري فوراً ومحاسبة من ينقل السلاح شكلت ضغطاً أخلاقياً وسياسياً إضافياً أكد أن المطالب السودانية ليست معزولة.

من “المحقق”:
وهكذا وقف المشهد الدولي على حافة تناقض صارخ فبين عقوبات أوروبية تتحرك على الأرض وقفت الخرطوم ترفض كل منطق وساطة لا يبدأ بقطع شريان السلاح وبعد كل هذا يبدو أن المعركة الحقيقية انتقلت من أرض دارفور إلى ساحات المحاسبة الدولية لكن هذه الساحة مليئة بالعوائق هناك إجماع على وصف الجريمة لكن هناك خلافاً حاداً على تسمية الجاني المساعد .. العقوبات تبدأ لكنها لا تزال تستهدف الأطراف المحلية أكثر من الشبكات الإقليمية الداعمة .. الضغط الأخلاقي يتصاعد لكنه يصطدم دوماً بجدار المصالح والعلاقات الدبلوماسية

وبقي السؤال: هل ستثمر هذه الخطوات الأولى عن محاسبة حقيقية أم ستجف كحبر على وثيقة بينما الدم لا يزال يسيل على الأرض؟

المحقق

Exit mobile version