في العاصمة التركية أنقرة، تحدث رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إلى سودانيين وأتراك في مقر السفارة السودانية. لم يُسمح للحضور بدخول أجهزة الموبايل، فتطوع بعضهم بنشر ملخص لما دار في اللقاء.
وفق ما نشره الأستاذ الصادق الرزيقي – وكان من بين الحضور – فإن البرهان ابتدر حديثه واصفًا نتائج زيارته إلى تركيا بأنها حققت “شراكة استراتيجية”. ووصف هذه الشراكة بـ(التضامن والتناصر والتعاون، انتقل من مراحل التفاهم إلى التطابق والهم المشترك، وإيجاد آليات حقيقية فاعلة في تدعيم هذا التوجه).
والحقيقة أن الزيارة لم يصدر عنها بيان رسمي مشترك، ولم يعقد الرئيسان مؤتمرًا صحفيًا لإشهار هذه “الشراكة الاستراتيجية” أو الحديث عنها، بل لم يصدر من الرئيس أردوغان – مباشرة أو عبر ناطق رسمي أو وكالة أنباء رسمية – أي تعليق أو بيان حول الزيارة. مما يناقض أن تكون هذه الزيارة بكل هذا الزخم والعائد الاستراتيجي الكبير، دون توقيع أي اتفاق أو بيان مشترك.
صحيح أن الزيارة تحمل أهمية كبيرة بالنسبة للرئيس البرهان، الذي تحاصره إرادة دولية وإقليمية بمساعي السلام وفق تدابير ملموسة تتجاوز الشعارات والبيانات. وقد استنفد كل السبل في الإفلات منها عبر محاولات تشتيت الانتباه بطرق أبواب متعددة.
ليس لتركيا مبادرة أو مساعٍ يمكن أن تفتح طريقًا بديلاً. بل الكلمات القليلة التي صدرت من الرئيس أردوغان عند ترحيبه بالبرهان أشارت إلى أهمية الانخراط في هذه الجهود السلام المبذولة. الأمر نفسه الذي تكرر في بيان الرئاسة المصرية عند زيارة البرهان للقاهرة، وقبلها من الرياض أيضًا، وسبق كل ذلك بيان القمة الخليجية. وغالباً سيمتد إلى زيارة الدوحة المرتقبة.
زيارة البرهان – بعيدًا عن الشق العسكري – ليس فيها جديد، ولم تمنحه مسارًا بديلاً يبرر استمرار تفادي الانخراط في المسار السلمي. وليست تلك هي المشكلة، فغالبية الزيارات الخارجية للقيادات لم تكن تسندها جدوى واضحة، لكن السؤال الجوهري: ماذا يريد الرئيس البرهان؟
لنكن صرحاء، فهذا ليس أمرًا خاصًا بل يهم الشعب السوداني والوطن كله.
وهنا أكرر أنني لا أتحدث عن المسار العسكري، فذلك له تقديرات يختص بها القائد العام والعسكريون فقط، ولا يجدر أن تكون مثارًا للرأي والرأي الآخر.
لكنني هنا أتحدث فقط عن الشق المدني الذي يعنينا نحن في الصحافة، ويهم الشعب السوداني بصفته صاحب المصلحة في بقاء الوطن سالمًا ومعافى.
الدولة السودانية في حالة حرب وطوارئ، وتعيش أوضاعًا استثنائية. مهما كانت مبرراتها، فإن ذلك لا يمنع المحافظة على كيان الدولة وقوامها وعافيتها، وأن يتمتع الشعب بأفضل ما هو متاح لحين الخروج من نفق الحرب.
لكن خطب الرئيس البرهان تركز فقط على الشق العسكري، تتحدث عن الحرب وكأنها تستمر أبدًا، وكأنما كُتب على الشعب أن يجمد حياته، وعلى الدولة أن تحبس أنفاسها إلى ميقات غير معلوم.
من حقنا – نحن الشعب – أن نسأل: ما هي المرجعية التي عليها أن تحفظ قوام الدولة وتشارك في صنع القرار وتراقب أداء الدولة من قمة رأسها إلى أدنى ما فيها؟
لو كان في الدولة مجلس تشريعي “برلمان”، لأمكن للرئيس البرهان أن يقف أمام منصته ويشرح حيثيات سياساته التي يدير بها الدولة، وتخضع تقديراته للأخذ والرد من المؤسسة التي يفترض أنها تمثل مصالح الدولة والشعب.
لكن كل ما يجري الآن هو خطابات جماهيرية تُلقى في تجمعات عفوية، أو في لقاءات مع الجاليات السودانية بالخارج، في غياب كامل لأي مؤسسة مرجعية هي المنوط بها ضبط سياسات الدولة.
لا نخشى على السودان من الحرب، فالجيش ظل يحمي هذه الدولة أكثر من قرن من الزمان، وفي أحلك الظروف، وظل يذود عنها وينتصر. لكن الخطر الآن هو في اضمحلال جسم الدولة لدرجة التلاشي، في ظل انفراد الرئيس البرهان بالقرار وتحديد المصير.
عثمان ميرغني
حديث_المدينة الاثنين 29 ديسمبر 2025
