مانويل ريغاس في مطار الخرطوم
في أحد الأيام ذهب الرسام ليرسم نزلاء مستشفى الأمراض العقلية في كونكسو، كان المشهد مؤثراً. ليس لأن (المجانين) توجهوا إليه مهددين، قلة من فعلوا ذلك، وبطريقة بدت طقوسية، وكما لو أنهم يحاولون أن يصرعوا رمزاً.
عندئذٍ جاء شاب يرتدي بدلة، فسأل الرسام: ما الذي يجري له؟ فقال: أنا رسام وجئت هنا بتصريح كي أرسم المرضى، فسهوت عن الوقت، فرد عليه الشاب قائلاً: هذا بالضبط ما حدث لي، مضت سنتان وأنا محبوس هنا، ولكنني لست مجنوناً، كانت عيناه وهو على حافة الهلع ببياض ثلج وذئب متوحد في الأفق، قبل أن يضيف: أنني أمزح، أنا طبيب، اطمئن، ستخرج الآن.
أعلاه، مقتبسٌ من رواية (قلم النجار) لـ(مانويل ريغاس). ومطار الخرطوم بدا لي ليلة أمس، وأنا انتظر في صالته الكئيبة وصول قريبتي وطفلتها، بدا لي وكأنه مستشفى للمجانين، صوت المذيعة الداخلية يأتيك مطموس الكلمات، فلا تعرف هل الرحلة التي أُعلن عن وصولها للتو قادمة من (كايرو أم من هنولولو)، الرجال في اليونيفورم منخسف اللون يدفعون باتجاه الباب الزجاجي (أدنى صالة الوصول) بأرتال من عربات حمل العفش، يفرجون بين ضفتي الباب الزجاجي بيديهم (لأنه لا يعمل أتوماتيكياً) كما هو مفترض، ثم يعودون إلى دفعهم مرة أخرى، ثم يعود أحدهم فيغلق الباب ثم يجثو تحته بطريقة (هندوسية) ويشبك جنزير صقيل في فتحتي الضفتين، ويمضي إلى شأنه، وهكذا يفعلون إلى ما لا نهاية من المرات.
كنت كما الرسام في مستشفى المجانين، بانتظار الرحلة، قيل إن الطائرة حطت، كان المنتظرون يترقبون في ملل وضجر واضحين، لكن القادمين تأخروا، قررت أن ارسم (الاستعلامات)، فلم أجد ملمحاً مميزاً أبتدر به لوحتي، طائرة (تاركو) لصباح الثلاثاء وصلت، لكن القادمين على متنها قضوا نحو ساعتين أو يزيد حتى يخرجوا إلينا، قالوا: كنا بانتظار وصول الموظف.
عندئذٍ بدا لي أنني سأكون غبياً جداً فيما لو سألت: ما الذي يجري له هنا؟ فأنا محض رسام جئت هنا بتصريح كي أرسم المعاناة، لكنني سهوت عن الوقت فأصبحت على حافة الهلع وكأن عيناي ببياض ثلج، فقذفت بريشتي وصرخت (مرحبا بكم في مطار الخرطوم الدولي)، التفت المُستقبلون نحوي، همس أحدهم: مسكين جنّ!
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي