دور الجيش في إنقاذ مصر
(1)
الكارثة التي أصابت مصر العزيزة منذ قرار الرئيس محمد مرسي المشؤوم بإعطاء نفسه سلطات استثنائية في نوفمبر /تشرين الثاني 2012 وانتهاء بانقلاب الثالث من حزيران/يونيو الأكثر شؤماً هي أعظم من كل الكوارث التي أصابت معظم البلدان العربية الأخرى. فغالب تلك البلدان مبتلاة بأنظمتها، ولكن مصيبة مصر تعدت النظام إلى الشعب الذي تفرق شيعاً، وأصيب قطاع منه بداء الشعبوية الفاشية.
(2)
من هذا المنطلق فإن تدخل الجيش لإنقاذ الموقف والحجز بين المتصارعين يكون موقفاً محموداً ومطلوباً. ولكن ما حدث هو أن الجيش تورط للأسف في الصراع القائم، ولم يقف على الحياد، فزاد الأمر سوءاً. فقد ساهم من جهة في زيادة حدة الصراع عبر دعم جهات متطرفة، وعبر زيادة الهوس والتحريض بعد تكريس أحادية الإعلام وجعله منبراً لكل كذاب أشر. وقد تضررت سمعة الجيش بتحوله من جيش الشعب إلى ميليشيا للأحزاب المتطرفة وساويرس وغيره من بارونات الخراب.
(3)
يحلو لكثير من أنصار الانقلاب الكارثي أن يرددوا أنه ثورة لا انقلاب، ويتساءلون: لماذا كان تدخل الجيش لإبعاد مبارك ثورة بينما يوصف تدخل الجيش في الثالث من تموز/يوليو 2013 بأنه انقلاب؟ والحقيقة أن من يطرح هذا السؤال يغالط نفسه وهو يعلم. فالجيش تدخل في كانون الثاني /يناير شباط/فبراير والشعب المصري موحد والنظام معزول، ليوقف القتل في حق الشعب الأعزل. والأصح أن يقال أن الجيش انسحب من معركة النظام المهزوم، لأنه كان حتى العاشر من فبراير يقف مع النظام، ويساعد المجرمين، بمن في ذلك أبطال موقعة الجمل. ولكنه في الثالث من يوليو أصبح يقود مواقع الجمال والحمير والبغال في كل مكان.
(4)
في شباط/فبراير 2011، انحنى الجيش لإرادة الشعب، وكانت النتيجة أن تحرر الإعلام وفتحت السجون وهرب الجلادون وتخفوا، وتراجعت فلول النظام السابق وأصابها الخجل، بينما أصبح ضحايا القمع وكل باقي المصريين أحراراً. أما بعد الثالث من يونيو، فقد أدخلت مصر في قفص أشد ظلاماً من ذلك الذي كانت فيه عشية الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، وامتلأت السجون وكمم الإعلام وأذل الشعب واستأسد الفلول. وبينما حوكم مبارك على قتل بضع مئات من المتظاهرين، فإن مثل هذا العدد بل أضعافه أصبح يقتل في هجمة واحدة. مصر بعد الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير كانت فخر العرب ومعجزة العالم، وهي بعد تموز/يوليو عار العرب ومحنة شعبها. كان العالم كله ينحني إجلالاً لمصر الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، أما مصر الانقلاب فهي تنحني لتقبل أيدي المحسنين من أمراء النفط. فشتان شتان شتان.
(5)
مصر في حاجة بحق لتدخل من جيشها، وليس من ميليشيا السيسي ـ ساويرس، أو فلول الأجهزة الأمنية، الحاكم الحقيقي لمصر اليوم. وهذا ضروري ليس فقط لإنقاذ مصر، بل لإنقاذ الجيش نفسه. ولنا عظة وعبرة في انهيار جيوش سوريا وليبيا وتشتتها شذر مذر بسبب تحولها إلى ميليشيات لأسر حاكمة. ولا شك أن أكثر حافز للجيش المصري للتدخل لإسقاط مبارك عام 2011 كان الخوف من تمزقه، لأن ضباطه وجنوده هم في نهاية المطاف وبدايته من الشعب المصري، ولا يمكن استخدامهم انكشارية تفصلهم أودية عن شعبهم.
(6)
تحتاج مصر تدخل جهة قوية محايدة بين القوى المتصارعة في مصر، توفق بينها وتفرض عليها الانصياع إلى كلمة سواء لمصلحة الوطن. أما المنهج الحالي الذي يتجه إلى حرب استنزاف ضد تيار الأغلبية، فسيدمر مصر أولاً، ثم يدمر من قادوه ثانياً، ولن ينتهي إلا بجلوس المصريين (من يبقى منهم فيما يبقى من البلاد) للتفاهم. ومن الأفضل للجميع اختصار الطريق، والتفاوض مع المعارضة وهي في حالة ضعف، لأنها تزداد قوة كل يوم، بينما يزداد النظام الحاكم قبحاً ويوغل في السقوط.
(7)
يكفي أن النظام جعل من نفسه ومن مصر مهزلة عبر مسرحية محاكمة صحافيي الجزيرة ذوي الشهرة العالمية التي بدأت بالأمس، فزادت وضعه سوءاً، لأن إعلام العالم كله هبط على مصر ليغطي هذه العملية الاستشهادية لنظام يصر على كشف عوراته على الملأ. وبعد أن كانت الجزيرة تكاد تنفرد بتغطية انحدار مصر اليومي نحو الهاوية، قامت كل أجهزة إعلام العالم الآن بهذه المهمة. وكل هذه الأجهزة تجمع على ما توصلت إليه الجزيرة من قبل بأن الحريات في مصر معدومة، والقضاء مسيس وفاقد للاستقلال والحيادية، وأن النظام ساقط في وحل سيئ
(8)
إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن المعارضة لن تحتاج إلى أي جهد لإسقاط النظام، لأنه في حالة سقوط ذاتي مثل حجر ألقي به من عل، ولا بد أن يستقر في قاع سحيق. وقد سقط نظام مبارك في غياب أي معارضة فاعلة، تحت تأثير ثقل فساده وفشله وغبائه. وقد كشفت محاكمة صحافيي الجزيرة أن الغباء ليس حكراً على مبارك وآله. فـأي نظام يسعى لإسكات ثلاثة صحافيين من قناة واحدة (وهي مهمة مستحيلة في هذا العصر) بتسليط آلاف الكاميرات والأقلام على عيوبه ونواقصه الكثيرة؟
(9)
يمكن للمعارضة مع ذلك أن تساعد في تلافي الكارثة بإطلاق مبادرات تجاه خصومها. وقد أحسنت حركة الإخوان حين مدت يدها إلى حلفائها السابقين بين يدي ذكرى ثورة كانون الثاني/يناير هذا العام، حين اعترفت بأخطائها تجاههم واعتذرت عنها. ولكن هذه مجرد خطوة أولى، لأن من المهم هو اعتراف جدي من قيادة الإخوان بالمسؤولية عن الكارثة الماثلة، ولا يتبعون سنة عبدالناصر رحمه الله حين قال: انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب.
على الأقل عبدالناصر عرض الاستقالة، ولم نسمع أيا من قيادات الإخوان وحزب الحرية والعدالة يعترف بمسؤوليته عن تحويل ربيع مصر شتاءً، وتمزيق وحدة قواها السياسية، وتحويل الإخوان من قمة السلطة إلى قاع السجون، وعودة المحنة.
(10)
المطلوب هو اعتراف من الجميع بمسؤوليتهم عما حدث، وتراجع داعمي الانقلاب عن مهمتهم الانتحارية المؤدية بالضرورة إلى تدمير مصر، وتراجع الجيش عن دور الحارس لفلول نظام مبارك وبقايا أجهزته الأمنية الفاشلة، ورموز الفساد، وعودته إلى دوره الحيادي كحارس للنظام السياسي وليس طرفاً فيه، وتوافق كل المصريين على كلمة سواء تفرغ السجون وميادين النزاع، وتعمر المصانع والمزارع والمدارس وكل أماكن الانتاج والتنمية والتقدم. وبدون هذا فلا مستقبل لمصر إلا كدولة فاشلة تابعة.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]