أين نحن من ويلكي؟
(تضطرني ظروف طارئة وقاهرة إلى نشر مقالات سبق لي نشرها هنا عام 2006، فالمعذرة، على أمل استئناف سلسة «مهن ومحن» قريبا إن شاء الله) دعوني أحدثكم اليوم عن رجل بريطاني جدير بالاحترام، اسمه أندور ويلكي، وهو بروفيسور في جامعة أكسفورد العريقة وله إنجازات معترف بها عالميا في مجال أمراض الدم، وأقام الدنيا وأقعدها، بل انهالت عليه اللعنات من سياسيين وصحفيين بريطانيين وأمريكان وجنسيات أخرى عديدة، لأنه وبحكم تخصصه النادر وشهرته العالمية، يتبنى نوابغ الأطباء، ويشرف على تدريسهم وتدريبهم، وهكذا تلقى طلبات من راغبين في نيل الدرجات فوق الجامعية في علوم الأمراض والدم، ورفض طلبا من طالب اسمه أميت دوفاشاني كان يريد التحضير للدكتوراه تحت إشرافه، ولكن البروفيسور ويلكي رفض طلبه ورد عليه بكل وضوح في رسالة بالبريد الإلكتروني: شكرا على اتصالك بي ولكنني لا أستطيع أن أقبل بك ضمن طلابي، لأنه يصعب عليّ قبول طالب إسرائيلي سبق له أداء الخدمة العسكرية (كان دوفاشاني مبتعثا من جامعة تل أبيب).
ويواصل بروفسور ويلكي مخاطبة الطبيب الإسرائيلي في رسالته تلك «والإسرائيليون استثمروا معاناتهم خلال المحرقة النازية، ويواصلون البكاء على ضحاياهم بينما ينتهكون حقوق الفلسطينيين بصورة فظة، فقط لأنهم – أي الفلسطينيين- يريدون العيش في وطنهم، وقد تكون أنت بالذات شخصا طيبا، ولكن ضميري لا يسمح لي بالتعامل معك لكونك مررت بالتجنيد الإجباري في إسرائيل.. وليكن معلوما لديك أن عددا كبيرا من العلماء البريطانيين يشاركونني الرأي في أن حكومتكم تمارس أفظع وأبشع الجرائم في حق الفلسطينيين»… وهكذا قامت قيامة صحف اليمين البريطاني وواصلت نهش لحم بروفيسور ويلكي متهمة إياه بمعاداة السامية والعنصرية، وضغطت جامعة أوكسفورد على ويلكي كي يغير موقفه ويقبل الطالب الإسرائيلي، ولكنه اختار تقديم استقالته على القيام بأمر لا يرضاه ضميره، هنا وقعت الجامعة في حيص بيص، فالرجل من أعلام علماء بريطانيا والتفريط فيه سيهز مكانة الجامعة العلمية، وهكذا تكتكت الجامعة لتجد مخرجا من الورطة، ثم قالت طز في إسرائيل، والزمان لا يجود دائما بأمثال برفيسور ويلكي وقررت اعتبار فترة استقالته «توقيفا»، أي تأديبا إداريا (يعني فيلم هندي اتقاء لألسنة الكلاب التي تنبح نيابة عن إسرائيل) وأعادته إلى وظيفته واضطر الطالب الإسرائيلي الى البحث عن جامعة أخرى تؤويه.
هذه الحكاية مهداة إلى من يعتبرون كل إنسان أبيض عدوا للعرب والإسلام، متناسين أن أقوى الحركات المعارضة لغزو أمريكا للعراق والبلطجة التي مارسها الجنود الأمريكان هناك، كانت تنطلق وتزداد عنفوانا يوما بعد يوم في أوروبا وأمريكا، حتى فاز أوباما بالرئاسة الأمريكية وقرر سحب قوات بلاده من هناك، بينما نحن لا نستطيع أن نمارس كراهيتنا لما تقوم به إسرائيل وأمريكا إلا بطريقة العادة السرية: عبر البريد الإلكتروني وفي جلسات الأنس، فكل كلمة سوء بحق أمريكا تعود عليك بشبهة الإرهاب، وكل كلمة كده وللا كده بحق إسرائيل تجعلك عدوا للسامية، مع أن حكومة إسرائيل الحالية هي العدو الأكبر للسامية، وقد قرأت للكاتب الأمريكي الكبير وليام فاف في الهيرالد تريبيون (التي رحلت عن دنيا الصحافة مؤخرا) مقالا عن بلطجات شارون السفاح صاحب أسوأ سجل دموي في تاريخ الشرق الأوسط (بأمانة سجّل معمر الجزافي لا يقل سوءا عن سجل شارون) وكيف أن الرئيس الأمريكي الأخرق جورج دبليو بوش سار على خطاه في العراق من حيث ممارسة القتل العشوائي وتجريف الأراضي الزراعية وتدمير البساتين، وبعد قراءة المقال خشيت على كاتبه من السجن، ثم تذكرت أنه أمريكي ومن حقه أن يقول ما يريد عن حكومة بلاده وحكومات بلداننا، بينما ليس من حقنا أن نقول أي شيء عن حكومة بلاده أو حكومة إسرائيل… أما إذا فقد عربي عقله وقال شيئا غير المدح في حق حكومة بلاده فإنه يلاقي عزرائيل!
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]