سعد الدين إبراهيم

مالك سيد الشجرة


[JUSTIFY]
مالك سيد الشجرة

في حينا، وفي وسطه تقريباً، شجرة سدر ضخمة.. منذ أن تفتحنا على الدنيا وجدنا «مالك» يقطنها، هي بيته وسكنه يرتبها وينظفها يومياً، يحصنها في الشتاء بمشمع قديم وهي في الصيف لطيفة.. الجلوس تحتها ينعش الروح، ويسمح للآخرين أن يتفيأوا ظلها في الخريف.. عندما تهطل الأمطار لا يستطيع أن ينام، يظل جالساً يرقب زخات المطر.. في صبر عجيب.. كم مرة طرح عليه بعض سكان الحي أن يحتمي بمنازلهم من المطر، لكنه كان يرفض الفكرة بهزات من رأسه فهو قليل الكلام جداً.. بل لا يتحدث مع أحد..

عرفنا أنه لا يتحدث إلا عندما كان يعلن على طريقة المسحراتي الأشياء السالبة للسكان.. فكنت تسمعه يضرب على صفيحة ويعلن:«يا ناس الحلة.. التاجر «حنان» بدسّ الدقيق».. أو السكر أو أي سلعة. بعد التحرير الاقتصادي أقلع عن التجار وتحول إلى الشباب وانفلاتهم فيعلن عن الأولاد الذين يتناولون المنكر.. يحكي الصباح أو في العصر: فلان ود فلان وعلان ود علان يعدد الشباب ويعلن أنهم يشربون الخمر في المكان الفلاني، وهكذا..

هذا ضجر منه البعض وظلوا يترصدونه، وكم حاولوا الإيقاع به أو الاعتداء عليه، أو إشانة سمعته، ولكن غلبهم حتى حين كونت شلة الشباب المنفلت عصابة هدفها الوحيد تأديبه والهجوم عليه بمباغتته بالهراوات أو قطع الحديد.. لكنه يهزمهم بقوة تبدو لهم خارقة.. جعلتهم يدارون هزيمتهم بترويج أنه ليس من الأنس.

بعض نسوة الحي أخذن يتحدثن عن كرامات «مالك سيد الشجرة»، وأصبح هذا لقبه واسم والده وكل بطاقته الشخصية.. لذلك بعضهن يتوددن إليه ويطلبن «فاتحته» وهن على يقين بسره الباتع، إذ أن الله يضع سره في أضعف خلقه.

الصحافية الشابة «نقاء» انتبهت إليه وفكرت أن تحاوره أو تقدم عنه موضوعاً صحافياً، وبدأت في الإعداد لذلك.. أخذت تتودد إليه وتصبر على عزوفه حتى اطمأن إليها ولان لها، لكنه كان يرد عليها باقتضاب شديد، إذ حين تسأله: من اين جاء؟ يرد عليها «من بلداً بعيد».. «ويمد حرف الياء في بعيد»، تسأله: أهلك وين؟ يقول: مقطوع من شجرة.. عشان كده «مقنب» في الشجرة.

لكن «نقاء» الصحافية تقسم بأنه قال لها إنه في هجمة من هجمات السيول والأمطار فقد أسرته وضمنهم ابنته «آسيا»، وهو على يقين من أنه سيلتقي بها في يوم من الأيام، لكن لا أحد يصدق «نقاء» ولا أحد يكذبها.

عمدت «نقاء» إلى سؤال أهل الحي بمختلف طبقاتهم وفئاتهم عنه، فوجدت أن البعض يتحدث عنه بمودة شديدة، والبعض يتحدث عنه بخوف.. والبعض يضعه في مصاف الأولياء الصالحين، وبعض المثقفين يصفه بأنه فقير ذكي استطاع أن يحقق وجوده ويقاوم الفناء باتخاذه هذا الموقف.. البعض يجزم بأن «مالك» سيد الشجرة ده وراهو سر كبير.. وقليل من الناس يقول إنه مجنون هاديء.. ومثقف موسوس قال إنه من المخابرات.. وآخر أكثر وسواساً قرر بأن «مالك» هذا في «السي آي إيه»، والصحافية تشيع أنه إنسان غريب الأطوار وهي ستسبر غوره.

كان أعضاء لجنة الحي يعلنون أنهم أخيراً أقنعوا السلطات برصف شارع رئيسي في الحي.. كان هنالك شارع صنعته العربات ودبيب الناس.. فأصبح ذلك هو الشارع.. وتوقع الناس إن السلطات ستقوم برصف ذات الطريق. أصحاب البيوت المطلة على الشارع عاشوا في خوف من أن السلطات ستوسع الطريق حتماً، وأنهم سيخسرون امتاراً من بيوتهم وأملاكهم.. وجابهوا أعضاء اللجنة بمخاوفهم فأقنعوهم بأن ذلك لو حدث فإن تعويضهم سيكون مجزياً.

كان أعضاء اللجنة حريصين على أن لا تلوح أي معارضة.. تجعل السلطات تغير رأيها في رصف الطريق.. فالانتخابات قادمة.. وهم لا يريدون شوشرة أو أن يعطوا فرصة للأحزاب المنافسة أن تستغل موقفاً ضدهم، لذلك عملوا على تهدئة الخواطر.. فلم تبد أي معارضة.

بعد أن جاء مهندسون فيهم أجانب وأحضروا الآلات والأدوات والمناظير وظلوا يطلعون وينزلون يكتبون ويرسمون، وبعد جولات استمرت لعدة أيام قرروا أن الشارع القديم ليس هو الشارع السليم.. لذلك فثمة تغير في مسار الشارع.. خاف البعض وتساءلوا عن الخسائر التي قد يخسرونها فطمأنوهم بأنه لا خسائر تذكر سوى أنهم سيضطرون لإزالة شجرة السدر لأنها ستكون في منتصف الطريق المقترح.. تنفس سكان الحي الصعداء إذ لا خسائر تذكر، وشجرة السدر ما مشكلة، ولم يذكروا على الإطلاق «مالك» سيد الشجرة.

بدأ العمل دؤوباً في الشارع حتى وصل إلى الشجرة. أحضر المهندسون عمالاً ومناشير لقطع الشجرة.. ولما شرعوا في ذلك تصدى لهم «مالك» وهو يحمل فراراً.. وأمرهم بالذهاب بعيداً.. وأخذ يصرخ: «لن تقطعوا الشجرة إلا على جثتي».. حاولوا بالسبل كافة إقناعه، لكنه رفض الاستسلام وأعلنها حرباً.

اضطروا اإلى الاستعانة بقوات من الشرطة، لكنهم وجدوا مقاومة شرسة فقرروا الإمساك به عن طريق التحايل خاصة أن قوته الخارقة بدت لهم أثناء مقاومته، فعمدوا إلى البحث عن شخص يطمئن إليه «مالك» فلم يجدوا سوى الصحافية «نقاء» والتي أقنعوها بأن سلامته تقتضي الإمساك به.. وطلبوا منها أن تشغله بالكلام حتى يتمكنوا من الإيقاع به.. بعد تردد وافقت «نقاء» على القيام بالمهمة، مع اشتراطها عدم استخدام العنف وضمان سلامة صديقها «مالك» سيد الشجرة فأعطوها الضمانات وعاهدوها على أنهم سيكونون رحماء به.

استطاعت «نقاء» أن تشغله فاصطادوه كما تصطاد الأسود بشبكة كبيرة.. أحكموها عليه واستطاعوا أن يبعدوه عن الشجرة.. قبع لا يستطيع حراكاً.. وأخذوا يقطعون الشجرة بالفؤوس… في البدء كانوا كلما ضربوا على الشجرة ضربة يتأوه «مالك» كأن الضربه على جسده.

استمر الضرب والنشر والرجل يتأوه مع كل ضربة حتى انهارت الشجرة أخيراً وسقطت.. هنا صاح «مالك» بقوة خيالية: «لا… لا»، كانت «لا» ضخمة تردد صداها طويلاً.. حتى خاف البعض خاصة النسوة اللائي يعتقدن بصلاح الرجل.. همد الرجل.

بعد ذلك فكروا في إطلاق سراحه فأزاحوا عنه الشباك فوجدوه بلا حراك.. حاولوا معه ولكنه كان قد فارق الحياة.. وجمت الحلة واعتلى الأسى الناس.. لكن على ذات طريقته صاحت «نقاء: «لا» وسقطت عليه تبكي بكاءً حاراً.

سحابة سوداء ملأت فضاء الحلة.. وسقطت بعدها أمطاراً غزيرة استمرت لساعات طويلة.. فازداد حزن الناس لأنهم أيقنوا أن السماء شاركتهم البكاء.
[/JUSTIFY]

الصباح..رباح – آخر لحظة
[EMAIL]akhirlahzasd@yahoo.com[/EMAIL]