“الليلة النقة.. الليلة النقة
هكذا أتخيل هتافات قيادات الأحزاب والتنظيمات المعارضة حين تحصل على تصديق بإقامة ندوة سياسية أو مخاطبة جماهيرية، بعد أن تتعطف عليها (الجهات المختصة) وتمنحها التصديق بإقامة ذلك المنشط، عطفاً على تصريحات والي الخرطوم التي جاء فيها أن ولايته بصدد إعداد لائحة تنظيمية لممارسة النشاط السياسي، رغم أن مثل هذا الادعاء ليس جديداً وإنما هو ضارب في القدم، وقد عانت منه ليس الأحزاب والتنظيمات السياسية فيما عدا الحزب الحاكم فحسب، بل حتى المنظمات المجتمعية والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي قلما يتم التصديق لها بإقامة مناشطها غير السياسية، بل وأحياناً تمنع في آخر لحظة من إقامة الفعالية رغم حصولها على التصديق، وبعد أن تكون قد صرفت ما صرفت من أجل الإعداد والتحضير للمناسبة.. وهتاف (بكرة النقة.. بكرة النقة) الذي أتخيله ينطلق من حناجر المعارضين حين يحصل أحدهم بعد لأيٍ وجهدٍ على تصديق بإقامة ندوة، فينطلق فرحاً وهو يلوح في الهواء بوريقة التصديق ويردد ذاك الهتاف، هو في الأصل هتاف كوميدي مسرحي أطلقته إحدى الزوجات المقهورات حين تصدق عليها زوجها الديكتاتور القاهر بيوم واحد فقط في الأسبوع، مصرّح لها فيه أن تخاطبه وتتحدث معه، بينما تظل طيلة أيام الأسبوع الأخرى (صم بكم) ساكنة مستكينة لا تنبس ببنت شفة، تؤمر فتطيع من سكات، وهكذا تترقب هذه المسكينة يومها المسموح لها بالحديث فيه بفارغ الصبر، وفي يومها الموعود تصحو باكراً مع أول خيط للفجر وتهتف بانشراح (الليلة النقة.. الليلة النقة). بهذه المناسبة أذكر قبل سنوات خلون أن أحد قياديي الحكومة والحزب الحاكم أظنه الدكتور أمين حسن عمر، استشعر مرة درجة من الخجل إزاء ما تلاقيه الأحزاب الأخرى، فيما خلا حزبه وأحباب حزبه من عنت وإذلال في إقامة أي منشط، فتوجه بدعوة ل(السلطات) المعنية بمنح التراخيص للندوات والاحتجاجات السلمية إلى التحلي بسعة الأفق والموضوعية، وعدم تغليب الاحترازات والاحتمالات باعتبارها مقيدة لحرية التعبير، ومن عبارة هذا القيادي يتضح أن هناك ضيق أفق وعدم موضوعية يؤدي إلى التضييق على الكيانات السياسية بمنعها من إقامة مناشطها، وينتج ذلك غالباً من تقديرات ذاتية، ولكن المشكلة هنا ليست في هذه السلطات التي قد تسيء التقدير ولا تحسنه، وإنما المشكلة ابتداءً في أن يوضع موضوع الحريات تحت يد وإمرة سلطة تمنحها أو تمنعها وفقاً لتقديراتها، فالأصل في الحريات هو المنح والاستثناء هو المنع، وليس ما هو كائن الآن حيث المنع هو الأصل والمنح هو الاستثناء، فمهما تكن السلطة التي يخول إليها أمر الحريات فهي في النهاية مؤلفة من بشر قد تتحكم فيهم الأهواء والميول والعواطف، وربما الانتماء وأيضاً ليسوا مبرئين من الخطأ وسوء التقدير، الصحيح بمقتضى أحكام الدين وشرعات الدنيا هو أن تكون الحريات مبذولة ومتاحة لا تتحكم فيها جهة أو تتدخل إلا عندما يحدث ما يستدعي التدخل، وهنا يكون المطلوب هو إخطار السلطة بزمان ومكان وساعة إقامة المنشط وليس طلباً بإقامته يرفض أو يقبل، وبغير هذا لن تأتي الولاية بجديد في ترتيباتها المزمعة لما أسمته تنظيم الممارسة السياسية.
[/JUSTIFY]
بشفافية – صحيفة التغيير
حيدر المكاشفي