جعفر عباس

مهن ومحن (49)


[JUSTIFY]
مهن ومحن (49)

من غرائب علوم الإدارة في بلاد العرب أوطاني، أن المدرسين في جميع المراحل التعليمية، لا يحملون مسمى «موظفين» ربما لأن الموظف هو من ينشكح متتنحا خلف طاولة، بينما المدرس مطالب بالوقوف على رجليه لأداء مهامه، وربما لأن المدرس أكثر المهنيين أمانة، وحتى لو لم يكن المدرس أمينا بدرجة كافية فإنه لا يستطيع الزوغان المتكرر عن عمله كما يفعل الموظفون الديوانيون، وهناك فئة أخرى من الموظفين لا يتسنى لها كثيرا ممارسة التسيب والكلفتة، وهم المحاسبون، فالمحاسبة مهمة تتطلب الدقة، وينبغي إنجازها في أوقات معلومة، فالفواتير مثلا يجب أن تخضع للمراجعة الفورية، وكشوفات الرواتب يجب أن تكون جاهزة في ساعة معلومة من يوم معلوم، وتسجيل الوارد والمنصرف لا يحتمل التأجيل، وهناك حسابات المناقصات والمزايدات والعطاءات التي لا بد من البت فيها في إطار زمني محدد، ولهذا تجد معظم المحاسبين «عصبيين» وقليلي الابتسام، فالأرقام لا تحتمل التأويل ولا شيء في علم الحساب والرياضيات عموما يبعث على الابتسام، (تذكرت زميلي في المدرسة المتوسطة، أثناء درس في اللغة الإنجليزية، وكان في قطعة قرأها علينا المدرس طرفة، فضحك بعضنا للطرفة، فما كان من زميلنا س. ع. وكان ضخم الجثة ومهابا ويتمتع بمناعة وحصانة ضد اللغة الإنجليزية إلا أنه انفجر في وجوهنا غاضبا: يا منافقين.. الإنجليزي كمان فيه حاجة تضحك؟)، ولهذا يقول الكثيرون إن المحاسبين «دمهم تقيل»، وهم فعلا كذلك، فلو خففوا «دمهم» ستخف موازينهم الوظيفية ويأكلون «الهوا»، أي يروحون فيها، فحتى الخطأ سهوا بوضع علامة الكسر العشري في المكان الخطأ، قد تجر على المحاسب الشبهات والاتهامات، وقد يتبع ذلك «المحاسبة الشرسة» التي قد تنتهي بعقوبة تصل إلى الفصل من الخدمة.
وهناك أمر آخر يجعل المحاسبين مكروهين من مختلف المستويات الوظيفية، فالمدير اللعبنجي لا يحب المحاسب المصحصح الذي يقول: هذا خطأ وهذا فيه تجاوز للصلاحيات، والموظف المستهبل يكره محاسب الرواتب الذي يخصم منه أيام غيابه بغير عذر (مع أن أمر العقوبة يصدر من جماعة شؤون الموظفين)، وفي بعض الجهات يكره بعض الجمهور الذي يتعامل مع تلك الجهات المحاسبين، لأنهم يحرمون هذا من الفوز بعطاء، أو يعترضون على منح آخر مبلغا لا يستحقه نظير عمل قدمه في شكل مقاولة أو توريدات، والشاهد هو أن المحاسب أقل فئات الموظفين قدرة على الاستمتاع بالتسيب و«تمويت» أمه مرة كل ثلاث سنوات كما يفعل الآخرون لينالوا إجازات لتلقي العزاء في أمهاتهم ذوات التسعة أرواح.
وبالتأكيد هناك المحاسب غير الكفء، أو المستهتر، وهذه النوعية من المحاسبين تظل «تأكل عيش» من جهد الزملاء المخلصين، الذين يكونون مرغمين على ستر حال زملائهم التعبانين مهنيا أو غير المنضبطين لأن المسؤولية المحاسبية جماعية، وما يلوث بيئة العمل المحاسبي بالصنف المضروب هو تكديس العمالة في المكاتب، كي يتسنى للجهات الحكومية المعنية التباهي بتوظيف كذا وكذا خلال «العام المالي التزاما بسياسة حكومتنا الرشيدة في خلق فرص عمل لجيل الشباب»، ومسكين جيل الشباب الذي يظل يترنح في قاع السلم الوظيفي لأن جيل الشيّاب، لا يغادر الكراسي إلا إلى القبر ويعينهم على ذلك أنهم من مواليد عصر ما قبل اختراع شهادات الميلاد.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]