مهن ومحن (60)
منذ أن تعلمت فك الخط، أي القراءة والكتابة، وأنا مبرأٌ من الاستعلاء والعنطزة الذكورية، وربما يعود ذلك إلى ثقافة أهلي النوبيين الذين يعطون المرأة مكانة اجتماعية عالية، فهي صاحبة كلمة في أمور الزواج والطلاق والميراث والنفقة وحل المشكلات في أوساط العائلة أو أهل الحي، ولا توجد عائلة في منطقة النوبة ليس فيها امرأة لكلمتها وزن، ولا يُقدِم رجال العائلة على أمر دون موافقتها، ومن ثم فالنوبي لا يرى غضاضة في أن يدخل المطبخ أو يغسل الملابس، أو يهدهد العيال، ولأنني ابن تلك الثقافة فقد نشأت وما زلت احترم كل النساء ولا أعتبرهن كائنات ضعيفة جسمانيا وأخلاقيا، بينما هناك من يعتبر المرأة شيطانا في هيئة آدمي، وينسبون إليها كل البلاوي التي تعاني منها مجتمعاتنا، وربما ساعدني على ذلك أن المرأة السودانية عموما دخلت كل ميادين العمل منذ خمسينيات القرن الماضي من البرلمان إلى القضاء، ليس بنظام الكوتات (وهو نوع من الصدقة الرجالية)، بل عن جدارة واقتدار واستحقاق.
وفي كل الدول العربية كان الناس ينظرون إلى الممرضات نظرة دونية، وكنت تسمع أن «بنات العوائل» لا يعملن في التمريض، ولا يصدر مثل هذا الكلام إلا عن شخص يقسم الناس إلى أولاد/ بنات عوائل، وأولاد/ بنات *لب!! ما معنى فلان ابن عيلة؟ ألا يعني ذلك أن هناك أناسا نبتوا في المشاتل أو المختبرات بدون أب أو أم أو خالة أو عم؟ بل حتى دخول المرأة مجال التدريس عرضها للقيل والقال حتى صار التدريس (مؤخرا) المهنة المفضلة لبنات العوائل والقبائل.
والتمريض من أشق المهن التي تكاد أن تكون حكرا للنساء، ليس لنفور الرجال من هذا الميدان، ولكن لأنها مهنة تتطلب فيمن يشغلها الحنان الغريزي والتعاطف الصادق مع المرضى، ولا سبيل لإنكار أن النساء أكثر حنوا وإنسانية ومودة ووفاء منا نحن معشر الرجال، والصعوبة في مهنة التمريض تكمن في أنها تتطلب التعامل مع الناس وهم في حال ضعف، أو إشراف على الموت، ولهذا ففي المستشفيات حسنة الإدارة لن تجد ممرضة نائمة ليلا في مكان العمل، بل لا يتسنى لبعضهن الجلوس طوال مناوبة قد تمتد إلى عشر ساعات، واحترم على نحو خاص الممرضات في أقسام العناية الفائقة في المستشفيات، فهن لسن مطالبات فقط بتزويد المريض بجرعات علاجية في فترات معلومة، بل بأن يبقين في حالة يقظة ذهنية تامة لقراءة كافة «العدادات» الملحقة بأجهزة الإنعاش والتصرف بسرعة وحضور بديهة مهنية لتلافي أي اختلال في وظيفة من وظائف جسم المريض.
أقول هذا وأنا أعرف أن كثيرين سيقولون إن الممرضات لا يستحققن كل هذا الثناء، وأنا أتفق مع هذا الرأي، ولكنني أقول «ليس جميع الممرضات يستحققن الثناء»، فقد رأيت بعيني ممرضات مستهترات بمهامهن وبالمرضى، ووقحات في التعامل مع الجمهور، ولكن أينما وجدت ممرضة من هذا الصنف فتأكد أن المدير الطبي في المكان الذي تعمل فيه سبهلل، والأطباء سبهلليون، وعمال النظافة يكنسون الأوساخ ويحشرونها تحت أسِرّة المرضى، وبعبارة أخرى فإن الممرضة والطبيب والكهربائي والمحاسب لا يُهمل واجبه ما لم يكن المناخ السائد في بيئة العمل يتسم بالتراخي وفقدان الانضباط والحساب والمساءلة، وحتى في مناخات كهذه ستجد أن الممرضات أفضل سلوكا وإحساسا بالمسؤولية الإنسانية من نظرائهن من الرجال، ولهذا احتكرت النساء مجال التمريض، فحتى في غرف/ عنابر الرجال في المستشفيات تتولى العناية بالمرضى نساء، فمن غيرهن يتعامل مع الاستفراغ عبر الفم أو التبول في الفراش كأمر عادي يأتيه بعض المرضى، وواجبهن مساعدتهم على البقاء نظيفين في بيئة نظيفة حتى لو تطلب الأمر تعاملهن مع الفضلات البشرية ومن ثم أرفع باروكتي احتراما لكل ممرضة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]