حُبٌّ بالأمتار
لم يحدث طوال حياتي أن اتخذت قرارا أو أصدرت توصية بإنهاء خدمات موظف، ولعل هذا دليل ضعف، فهناك موظفون وجودهم في مكان العمل أكثر ضررا من نفعهم، ومع هذا فإن قلبي لا يطاوعني على حرمان آدمي من مصدر رزقه، وخاصة أنني لست الجهة التي كانت تختار كل الموظفين الذين يعملون تحت إشرافي في أي موقع عملت فيه، وكلما طلبوا مني إنهاء خدمات موظف أقول لهم: ليتخذ القرار من قام بتعيينه، أما إذا فقع موظف مرارتي وكبدي وسبّب لي ارتفاعا في ضغط الدم، فإنني أعمل بدبلوماسية لنقله إلى وظيفة هامشية، وما أكثر الوظائف الهامشية في كل المؤسسات في العالم العربي، بل كم من مدير أو رئيس قسم وجوده مثل عدمه، مجرد طرطور يوقّع على الأوراق ويزأر ويزمجر وهو يطوف بالمكاتب لإثبات وجوده.. ولكنني على استعداد لتكبد المشاق للسفر إلى أبوظبي لإقناع الشخص الذي يعمل لديه المدعو فادي، بفصله من العمل وإبعاده إلى وطنه على أول سفينة (وليس طائرة) فادي هذا هاجر إلى الإمارات من وطنه ويعمل موظفا في مقهى، وطبيعة عمله هي تحصيل الإيرادات من الجرسونات.
والمقاهي مثل المدارس الخاصة تهلك العاملين فيها بالعمل الإضافي بلا مقابل، ومشكلتي مع فادي هذا هي أنه يحب فتاة اسمها سهى. والأمر لا يتعلق بوجود علاقة عاطفية بيني وبين سهى هذه، فبحمد الله لم ألتق بها وأسأل الله ألا ألتقي بها (طَوِّل بالك لتعرف لماذا).. فادي هذا قرر كتابة رسالة إلى سهى يبث فيها حبه لها، وكان طول الرسالة الأولى أربعين مترا.. طول الرسائل يقاس بالكلمات ولكن رسالة فادي «غير شكل» وتقاس بالأمتار، يعني كانت تلك الرسالة تتألف من أكثر من 150 ورقة… لا يفعل ذلك إلا موظف مستهتر بعمله وصحته، ولا يعرف قيمة الوقت.. دعك من فادي ولننتقل إلى سهى: فرحت بالرسالة ونقلت فحواها إلى أهل قريتها، حتى صارت حديث المجالس.. ازدادت سعادة فادي برواج رسالته وعكف على كتابة الرسالة الثانية وكان طولها نحو اثنين وخمسين مترا.. فانتقلت حكاية الرسالتين وقصة الحب إلى القرى المجاورة وصارت سهى أشهر من ليلى المجنون وعزة كثير وجعفر وعبلة.. وطبعا على فادي أن يواصل تحطيم الرقم القياسي الخاص به فتكون رسالته الثالثة من ستين مترا والسابعة من 123 مترا.. وكلما ازدادت الرسائل طولا كلما ازدادت سهى سعادة وكلما نقص عقل فادي وعقلها.
ملايين الرجال والنساء تزوجوا عن حب، ولكنهم لم يبتذلوا عواطفهم بجعلها مادة للونسة والسمر.. الإنسان العاقل لا يتحدث أمام الآخرين عما فعله داخل دورة المياه ولا عما يدور بينه وبين حبيبته أو زوجته،.. ولكن سهى وفادي «لايقين على بعض».. والمسألة بالنسبة لهما تسلية جماهيرية،.. وأعرف بيوتا عانت من الخراب لأن أحد الأولاد يتكلم مع حبيبته لساعات يوميا عبر الهاتف.. ولا أعرف ماذا يقولون: أنا بحبك وأنتِ أهم شيء في حياتي يا حياتي! ثم ماذا بعد؟ ما الذي يمكن أن يقال طوال ساعات أو عبر عدة صفحات من الورق؟ باختصار الحب قضية «خاصة» مثل التهاب البواسير والتبول اللا إرادي، وليس من اللائق أن يكون مادة للترويح والترفيه عن الآخرين. أقول هذا وأنا أعرف أن بعض المتزوجين من الجنسين يجعلان علاقة الفراش الحميمة بينهما مادة للونسة مع الآخرين، وهذا الصنف من الرجال والنساء «فادي وساهي ولاهي».
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]