أطفال الهجن :قصص وحكايات مؤلمة
أكثر من ألف طفل من أطفال الهجن يعانون معاناة قاسية ومؤلمة بعد عودتهم من إحدى الدول العربية للسودان إما لتقدم أعمارهم، او بسبب إعاقتهم جراء الحوادث التي تعرضوا لها أثناء سباقات الهجن.. الاطفال عادوا للوطن أميين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بعد أن أمضوا سنوات الدراسة الأولى على ظهور الإبل يمتعون غيرهم بالسباقات مقابل رواتب ضئيلة فلم يحصدوا سوى السراب.. منهم من توفى هناك، أو إختفى في ظروف غامضة. وبعضهم عاد للوطن فاقداً للذاكرة، وباعاقات دائمة لتعرضهم للحوادث أثناء السباقات، دون حقوق أو اي تعويض.. «الرأي العام» التقت باربعة من أطفال الهجن : (مصطفى أحمد الطيب علي – الحسين سليمان الزين مسلم – عمر النور احمد الطيب – محمد موسى ابراهيم) ليكشفوا للجميع الحياة القاسية والظروف اللا إنسانية التي كانوا يرزحون تحتها هناك.
داخل الشحانية
خرجنا من السودان في العام 1989م بموجب عقودات عمل من قطر، للعمل (جوكية) بدولة قطر، ونص العقد على توفير التعليم لنا هناك، والعمل ساعة واحدة فقط في اليوم. عند وصولنا قطر تم ترحيلنا إلى منطقة خلوية تسمى (الشحانية) ، تبعد عن الدوحة العاصمة حوالي «3» ساعات غربا، وهي منطقة جبلية، نائية، ووعرة كنا نعتقد اننا سنسكن داخل شقق او منازل، لكننا فوجئنا بالسكن داخل خيام، كل كفيل لديه خيمة خاصة باطفاله الجوكية، بعض الخيام تضم طفلين وأخرى تضم عشرة أطفال، من جنسيات مختلفة (سودانيين – هنود – بنغال – باكستانيين، ايرانيين، صوماليين) جميعهم اطفال اعمارهم في حدود «5-8» سنوات، ويشترط ان لا يزيد وزن الطفل عن «20» كيلو جرام وإذا زاد وزنه عن الوزن المسموح به يجبرونه على الصيام، حيث يطعمونه كيك وبارد بمعدل وجبتين في اليوم وهناك طباخ هندي يقوم بتوزيع الطعام على الاطفال بكميات معينة ومحسوبة، ويرفض زيادتها حتى لو أحس الطفل بالجوع!!
أما الطعام الذي يقدم يوميا للأطفال الذين لا يعانون من زيادة الوزن، فهو عبارة عن كبسة بالخضروات، بدون لحم، فالاطفال الجوكية ممنوعون نهائياً من تناول اللحم، سواء كان لحم ضأن او دجاج خشية زيادة اوزانهم، بجانب وجبة يطلقون عليها «صالونة» وهي وجبة معلبة مشكلة من الخضروات، إضافة للفول المصري المعلب، وكانوا يقدمون لنا وجبتين فقط في اليوم، إفطار وعشاء.. وأحيانا يشفق على حالنا بعض بدو المنطقة فيقدمون لنا «سرا» لحم الدجاج.
يوم الجوكية
يوم الأطفال الجوكية يبدأ قبل صلاة الفجر، حوالي الرابعة صباحا فبعد أداء صلاة الصبح يقومون بعملية يطلق عليها هناك (التفحيم) وتعني تنشيط او ترويض الجمل حتى يحافظ على الوزن المحدد لإبل السباق، ويقوم الأطفال بهذه المهمة يومياً، تدريجياً حيث يقودون الجمال اولا لمسافة «3» كيلو مترات، تزيد تدريجيا حتى تصل المسافة إلى «70» كيلو متراً، والطفل الواحد يقوم بتفحيم «7 – 10» جمال يومياً، وتستمر هذه العملية حتى المساء، يوميا بما فيها الجمع والعطلات.
وبعد إنتهاء عملية تدريب الجمال يعود الأطفال للمخيم ويقومون بمهمة أخرى شاقة وهي عملية إخضاع الجمال لـلـ «حمام» بالشامبو ونظافتها جيدا، حيث توجد بالحظيرة حوالي «30» جملاً، يقوم الاطفال بنظافتها مساء كل يوم بالشامبو، وبعد الحمام يغطونها ببطاطين خاصة،حتى لا تصاب بنزلة برد.. كما يقوم الأطفال بالتقاط حشرات «القراد» واحدة إثر واحدة من كل جمل يومياً، وإذا إكتشف البدوي صاحب الجمال قرادة في أحد جماله يعاقب الطفل بالجلد بالعقال!!
المهمة الأخرى الملقاة على أطفال الهجن، إطعام الجمال بالعجوة اللبنة، وهي تجلب بالجوالات، وعلى الاطفال تنظيفها من النواة اولا، ثم تضع وتطهو في شكل فطيرة تشبة (قراصة الشايقية) المصنوعة من عجينة القمح، والمخلوطة بالعسل والسمن، ثم تطهى نصف إستواء في النار وتقدم للجمال وجبة واحدة في اليوم، وهناك وجبة أخرى يعدها أطفال الهجن عقب عملية التدريب «التفحيم» ، حيث يقومون بتقديم لبن البودرة- نيدو يحل داخل أحواض كبيرة، تعبأ باللبن الصناعي كل جمل لديه حوض خاص به مليء بلبن النيدو، بينما الأطفال يحرم عليهم شراب اللبن، والطباخ الهندي الصارم لديه اوامر مشددة بذلك فيراقبهم باستمرار.. وبعد إطعام الجمال ، هناك مهمة اخرى شاقة تنتظر الاطفال، وهي نظافة فضلات الجمال وإخراجها من الحظيرة.. وقتها تكون الساعة قد شارفت على التاسعة مساء، ويصبح الاطفال في حالة إرهاق وإعياء بدني واضح فيدخلون الخيام وينامون حتى الرابعة صباحا ، ليبدأ يوم عمل جديد.. وليتهم ينامون، فنومهم متقطع حيث ان اللمبات تترك مضاءة طيلة الليل في كل الخيام بجانب خوفهم من الحشرات السامة خاصة العقارب الكبيرة السوداء والثعابين التي تتسلل لخيامهم ليلا، كما تفزعهم اصوات الذئاب والحيوانات المفترسة الاخرى التي تكثر بتلك المنطقة الجبلية المهجورة النائية، وسبب اختيار البدو أصحاب الجمال لهذه المنطقة بالذات لوجود أعشاب (الريعة) لتغذية الجمال ، وهي اعشاب طبيعية تنمو بكثرة بمنطقة (الشحانية) .. والتي يظل داخلها اطفال الهجن لفترات تتراوح بين (2-10» سنوات، بدون أي ترفيه (لا تلفاز ، لا مذياع) ، وحتى إذا وجد تلفاز فهم لا يستطيعون مشاهدته من فرط الاعياء والارهاق والتعب، إذ يظلون يعملون حوالي «18» ساعة يومياً!!
حلبة السباق
عند وصول اطفال الهجن، يتم تدريبهم على الركوب»، اي ركوب جمال السباق يفعلون ذلك بتثبيت الطفل وربطه بقماش لذاق يمنعه من السقوط، وقبل بداية السباق يقومون بعملية تسمى التصقيع» – اي ربط الطفل الجوكي جيدا على الجمل من رجليه حتى لا يسقط أثناء السباق، ليس حماية للطفل، بل ضمانا لحصول الجمل على الجائزة، ففي حالة سقوط الطفل أثناء السباق ووصول الجمل بدونه إلى المنصة- نقطة النهاية – يحرم من الجائزة حتى ولو حصل على المركز الاول، حيث ان صاحب الجمل الحائز على المركز الاول تقدم له جائزة عربة فارهة آخر موديل- مرسيدس- لاندكروزر، بجانب مبلغ مالي كبير، أما الجمال الفائزة بالمراكز الأخرى فيقدم لصاحبها جوالات شعير، بينما الطفل «الجوكي» لا يقدم له اي شيء حتى ولو أحرز الجمل الذي يقوده المركز الاول، ويكتفي براتبه الضئيل ، رغم ان السباق يمتد احيانا لأكثر من «70» كيلو متراً.. داخل حلبة السباق الكبيرة، وهي دائرية الشكل، وفي منتصف السيدة توجد أشجار كثيرة.. وجمال السباق يطلق عليها ألقاب مثل: (الدرعية- النويعيس- الزعيم – ود الرباع – العِقلة)، وجمال السباق مدللة لدرجة الإفراط ، لدرجة انصح يرسلونها بالطائرة للعلاج بالاردن في حال مرضها.
حوادث السباق
أكثر الفصول مأساوية في قضية أطفال الهجن، تعرضهم للحوادث أثناء السباق.. وهذه نماذج مؤلمة منها:
? طفل من شمال كردفان، صغير السن، إشترك في احدى السباقات بطول «51» كيلو متراً، فاصيب الطفل الصغير بالتعب والإرهاق لحداثة سنه، فقام بإفلات الشداد- الحبل- من يديه، وظل مربوطاً على الجمل من رجليه، فأصبح جسمه يتأرجح ويطوح، فاصطدم برجلي الجمل الخلفيتين، واصيب بنزيف ، وعند وصول الجمل لنقطة النهاية، إكتشف «المتفرجون» وفاة الطفل الصغير المسكين، وهو لا يزال مربوطا من رجليه بالجمل!!
? طفل صغير من أبناء الرشايدة يدعى «أسعد» عمره «5» سنوات، تعرض لحادث مؤلم أثناء إحدى السباقات، حيث هاج الجمل الذي كان يقوده بسبب كيس نايلون عبر أمامه، فجفل وكسر الحاجز الحديدي لـ «السِيده – بكسر السين»، اي صلبة السباق الدائرية وإتجه ناحية الأشجار الموجودة وسط الحلبة، فاصطدم الطفل بالأشجار، وتمزق لاشلاء.
طفل جوكي يدعى «صديق أحمد الطيب علي»، «8» سنوات، نزل «السِيده» – حلبة السباق – في الرابعة صباحا لتدريب احد الجمال، وكان مربوطا بالجمل من رجليه، فجفل الجمل وهاج ليصطدم رأس الطفل بالسياج الحديدي عدة مرات، واصيب بنزيف في الدماغ، تسبب في خلل دائم له فقد على إثره الذاكرة، وهو الآن بالسودان مختفٍ داخل السودان لا يعرف أهله إن كان حيا أو ميتا، وتسبب إختفاؤه في مرض والدته «بثينة محمد قسم الله»، المقيمة حالياً بامبدة الحارة «20».
? «محمد موسى ابراهيم الشائب» وهو أحد أطفال الهجن الذين إلتقيت بهم حكى لي بحسرة الحادث المؤلم الذي تعرض له قائلاً:
وقتها كان عمري «6» سنوات كنت أركب جملاً ملقباً بـ «بصيص» اي غير مروض واثناء السباق سقطت من الجمل على أرض الحلبة، الرملية تحت أرجل جمال السباق المسرعة، فغبت عن الوعي، ولم أفق الا داخل المستشفى فاخبروني انهم اجروا لي عملية فتاق في بطني باحدى المستشفيات حيث اجريت لي عملية فتاق بـ «14» فتلة، وبعد شفائي الذي استغرق «6» شهور تم ترحيلي للسودان دون اي تعويض جراء الحادث.
? أما الجوكي الحسين سليمان الزين وهو أحد اطفال الهجن الذين التقيت بهم، فروى لي بنفسه الحادث الذي تعرض له أثناء عملية تدريب قائلاً:
كنت أركب جملاً ملقباً بـ «العِكلة» – بكسر العين ، وكانت الساعة الخامسة صباحا، وهناك ضباب كثيف، وفجأة مر حيوان مفترس أمام الجمل فخاف وجفل واصبح يضرب في الحاجز يمنة ويسرة حتى تحطم جزء من السياج الحديدي لحلبة السباق، فانغرزت قطعة من الحديد داخل رجلي وكسرتها فسقطت على الأرض ومن فوقي الحمل، فاصبت بغيبوبة لمدة شهر كامل، وتمت خياطة الجرح برجلي بـ «12» غرزة، الا أنني عدت للسباق مرة أخرى بعد «3» شهور من الحادث.
? أما الطفل «أحمد» من منطقة «أم سيالة» ، بشمال كردفان فقد سقط من الجمل اثناء السباق. فكسر حوضه وسلسلته الفقرية، فاصبح معاقا عاجزا عن الحركة، سجين كرسي معاقين وهو موجود الآن بمنطقته «أم سيالة».
مأساة أخرى
رغم أن عقودات عمل اطفال الهجن تنص على تعليمهم الا أن ذلك لن يحدث معهم، إذ ظلوا يقيمون في الخلاء بتلك المنطقة الجبلية المهجورة النائية يشاركون في السباقات ، ويطعمون الابل، ويعتنون بنظافتها بالشامبو، وإزالة روثها دون أن يتلقوا حرفا، فقد خرجوا من السودان قبل بلوغهم سن الدراسة ولم ينتظموا هناك بالمدارس، ولذلك معظمهم أميون لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ، وبعد عودتهم للسودان، لم يجدوا أعمالا سوى الأعمال الهامشية .. مثلا: محمد موسى، لا يعمل بسبب عملية الفتاق، واحيانا يعمل سائق ركشة لساعات محدودة. أما «عمر النور» فيعمل طلبة باليومية في البناء.. ومصطفى أحمد الطيب» كان يعمل بمصنع بسكويت الا أنه أغلق وتم بيعه فاصبح عاطلا بلا عمل. اما الحسين سليمان فيعمل باحدى الكافتيريات بموقف استاد الخرطوم.. فسباق الهجن أضاع مستقبل هؤلاء الاطفال لا تعليم، ولا عمل، ولا أمل فمن يعوضهم عن هذه الخسارة.. علما ان عددهم يفوق الالف طفل جميعهم عادوا للسودان، موزعين على ولاياته المختلفة، منهم من توفى هناك، ومنهم من توفي بالسودان، ومنهم من اختفوا في ظروف غامضة بقطر.
أطفال الهجن بالسودان لا يزالون يبحثون عن حقوقهم الضائعة. فبعضهم ذكروا ان اللجنة المكلفة بتعويضات أطفال سباقات الهجن إستلمت جوازاتهم التي تثبت حقوقهم علماً أنهم مكثوا هناك من سنتين الى عشر سنوات، حيث أن الطفل عندما يبلغ الثامنة يتم إيقافه من السباق، ويتم تشغيله راعيا لجمال السباق، والتدريب ، او العمل في «القليصة»، وهي عملية تدريب جمال السباق الصغيرة السن على السباق، حيث يتم ربط «14» جملاً صغيراً بجانب جمل السباق المتقاعد الذي يطلق عليه «القليصة» ، حيث يقوم بسحبهم خلفه لتدريبهم على السباق بحجة انهم ليسوا مستحقين ويخشون من ضياعها، وبالتالي ضياع حقوقهم وحاولوا توكيل محامٍ لإسترداد حقوقهم الا انهم لا يملكون الاتعاب..
ومن هنا نناشد المحامين الخيرين التبرع لإسترداد حقوق هؤلاء الاطفال، علما ان عددهم يفوق الالف طفل، المعروف منهم حاليا حوالي «30» .. وعلى أطفال الهجن الاتصال بالصحيفة.
التاج عثمان:الراي العام