عبد الجليل سليمان

المُحقق “جابو” في عزلته الأخيرة


[JUSTIFY]
المُحقق “جابو” في عزلته الأخيرة

ربما لا يعرف كثيرون أن الراحل العظيم معلمنا وقادح خيالنا الفذ الروائي الراحل غابرييل غارثيا ماركيز، كان يحتفي بالصحافة أكثر من الرواية، لذلك حُق لنا أن نحتفي به، نرد له النذر اليسير مما وهبه إلينا، ويكفيه أنه أول من أطلق عبارة (الصحافة أحلى مهنة في العالم)، بعد أن ظل كثيرون يصفونها بمهنة النكد والشقاء ومهنة من لا مهنة له، ومهنة الجاسوسية والاطلاع على (عورات الآخرين).
وعندما قرر السيد (جابو)، وهو اللقب الذي كانت أسرته وأصدقائه يطلقونه عليه، الالتحاق بالصحافة في مسقط رأسه بكولومبيا، منتصف خمسينيات القرن المنصرم، اختار أن يعمل مراسلاً صحفياً لصالح صحيفة (اسبكتادور) أشهر وأكبر الصحف في أميركا اللاتينية قاطبة في ذلك الوقت.
ومُذاك، وإلى حين رحيله لم ينس (ماركيز) الصحافة قط، فقد كان محققاً لا يشق له غبار، كان بارعاً في كتابة التحقيقات، وكان ذا عناية بالتفاصيل، حتى أن الصحفي الأمريكي جون أندرسون، المعاصر له، قال عنه: “أهم ما يكتسبه الصحفي من جابو هو طريقته في ملاحظة التفاصيل، عندما لا يكون هنالك شيء يحدث”.
وكنت أشرت في (زاوية سابقة) إلى أن ماركيز قال ذات حوار، إنه يستمتع بكتابة التحقيق الصحفي، أكثر مما يستمتع بكتابة الرواية، وإنه يعتبره (أي التحقيق) رواية مبهرة،
كتب ماركيز زهاء عشر روايات وخمسين قصة، وحصل على نوبل سنة 1982م، وحققت روايته المهولة (مائة عام من العزلة) مبيعات بلغت 50 مليون نسخة وترجمت إلى 25 لغة، حتى أن نيويورك تايمز قالت عنها إنها أول عمل أدبي بجانب موسوعة جينيس يجب على البشرية كلها قراءته، رغم كل ما حققته له الرواية إلا أن الراحل (جابو) ظلل يردد دوماً أن الصحافة لا تقل مقاماً عن الرواية والسينما، وأن التحقيق الصحفي بالذات أفضل شيء في الحياة.
لذلك، رأت (الحصة الأولى) أن تحتفي بماركيز كمحقق صحفي، أكثر مما هو روائي، وأن تسلط الضوء على شغفه وولهه وحبه العظيم لهذه المهنة العظيمة، آملة أن تولي الصحافة السودانية لأقسام التحقيقات مساحة بقدر قامة رائد الواقعية السحرية، وأحد أهم روائيي العصر الحديث ومحققيه الصحفيين، فالتحقيق أيضاً فن رواية التفاصيل التي بين ثنايا المستندات، وفن الكشف عن الخفايا، عن الأشياء القصية المخبوءة عن أعين الجمهور.
فانعم أيها المحقق العظيم (جابو) في عزلتك الأخيرة بحياة أبدية هادئة، وها نحن ننعم بإرثك الرائع، وعلى رجع خطواتك نكتب في صحافتنا حتى تغدو فيما بعد صحافة حقيقية.

[/JUSTIFY]

الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي