تبرئة الغرب للحكومة.. شيك بدون رصيد
يبدو ان جسد العلاقات السودانية الغربية المسجى على الفراش الأبيض منذ صعود الإنقاذ لسدة الحكم في الثلاثين من يونيو قبل عشرين عاماً، خلت بحاجة الى أكثر من عملية نقل دم من نوعية الزمرة الموجبة بسبب أن تلك العلاقة إستطاعت وبمرور الوقت تكوين ميكانزمات ذاتية لمقاومة كل ما يصب في شرايينها ويحمل صفة الإيجاب. فكم باتت الخرطوم هانئة على وقع تصريحات غربية لتستيقظ صبيحة اليوم التالي على كوابيس حرب تصعيدية بينها والغرب وبصورة غريبة.
وتعد حالات الفصام بين التصريحات الايجابية والواقع (الاقوال والافعال) سمة ملازمة للسياسة الأمريكية الرسمية تجاه السودان ويجلس على هرم تلك القاعدة كولن باول وزير الخارجية الأمريكي بعهد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش وسكوت غرايشون مبعوث السيناتور أوباما خليفة بوش الابن.
ففيما نفى باول في أعقاب زيارة قام بها لأقليم دارفور منتصف العام (2004) وصف ما يجري فيها بالإبادة الجماعية وقال إنه وبحسب ما أطلع عليه ميدانياً لا يستطيع وصف ما يدور في دارفور على أنه إبادة جماعية. ولكن ما ان وطئت اقدامه ارض بلاده حتى ادلى بتصريح نقيض، ولم يكتف باول بالسير في المسار العكسي لتصريحاته بالخرطوم بل نجح ودبلوماسية بلاده بحمل نقيض وصفه ذلك الى داخل أروقة مجلس الأمن ما دفع كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة وقتها الى تعيين خوان منديز خبيراً خاصاً لمنع الإبادة الجماعية في دارفور.
وفي ذات الصعيد الإرتدادي تنصل أسكوت غرايشون مبعوث الإدارة الأمريكية للسودان عن تصريحات تلفزيزنية له عقب جلسة خاصة عن السودان بالكونغرس، قال فيها : أجهزة إستخباراتنا لم تقدم على الإطلاق دليلا ملموسا يشير الى أن السودان دولة راعية للإرهاب. ووصف إدراج إسمه في تلك القائمة بـ (القرار السياسي) وحذر من عواقب القرار، التي قال إنها عرقلت مسار التنمية غير أنه عاد وفي وقت وجيز للتراجع عن حديثه التلفزيوني بحديث آخر لـ (رويترز) قال فيه بأن حديثه أمام لجنة الكونغرس حول دعوته الى الإسترخاء في العقوبات الأمريكية على السودان أسيىء فهمه. وأضاف بأنه يعارض تخفيف العقوبات على الحكومة السودانية. وتابع أن بعض العقوبات هي التي ينبغي تعديلها خاصة تلك التي تمنع الولايات المتحدة من إرسال المعدات الثقيلة.
وتتراوح أسباب الردة عن التصريحات بين العوامل الداخلية والخارجية حيث شكل موقف الحركة الشعبية الرافض لرفع العقوبات عن البلاد العقبة الكؤود مصدرها الداخل أمام مساعي الحل بحسب كثير من المراقبين. وبين العوامل الخارجية التي أجملها د. الطيب زين العابدين المحلل وأستاذ العلوم السياسية في حديثه لـ «الرأى العام» بان الولايات المتحدة تعتقد بأنها سيدة العالم وبإستطاعتها فعل ما تشاء فيه بما في ذلك تغييرها لرأيها حسباً لأوضاعها الداخلية خاصة بما يتعلق بالإستجابة لجماعات الضغط، بينما ليس على بقية الدول سوى السمع والطاعة. وقال زين العابدين بأن أمريكا اعتادت خرق العهود الدولية (حادثة غزو العراق)، وخرق الوعود التي قطعتها للخرطوم مرة برفع إسمها من القائمة السوداء حال التوقيع على نيفاشا، وأخرى بالتزامها بمعاقبة الحركات غير الموقعة على أبوجا حال توقيع الحكومة وهو مالم يتم في الحالتين وقال لي متعجباً: ما بالك بالتصريحات!.
وفي المقابل تحلق الخرطوم ومسئولوها بأحلامهم حتى تصبح بلا سقوف مع أول تصريح إيجابي لمسئول أمريكي وما يلبثون أن يرتطموا بواقع التصريحات التي لا تعدو كونها فقاعة صابون تنفجر جراء أول إختبار مع نسمة رياح.
وبلغت الأحلام عقب تصريحات غرايشون حد مناداة السفير عبد المحمود عبد الحليم مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، إدارة أوباما للقيام بخطوات واضحة وحاسمة نحو رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الى جانب إيقاف العقوبات الأحادية وصولاً لعلاقة سوية بين البلدين تحترم خيارات السودان وتراعي مصالح الشعبين.
وهو ما يمثل تكراراً لسيناريو باول الذي ابتدأ بكثير من الأمل وانتهى الى أحرف شبيهة مع بعض التبديلات التي أحالته لـ ألم بفرض مزيد من العقوبات.
ودعا د. معتصم أحمد الحاج مدير مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة ام درمان الأهلية لعدم التعويل على التصريحات الصادرة من شخصيات غربية والإستعاضة عنها بالتعامل المباشر مع المؤسسات بإعتبار ان مقاليد صناعة القرار في الدول الغربية بيد المؤسسات وليس الأفراد. وقال لـ «الرأى العام»: بأن المسئولين الغربيين يتم إستدراجهم للإدلاء بمثل تلك التصريحات التي لا تعكس آراء دولهم بالضرورة في معظم الأحايين. وحث معتصم الحكومة الكف عن التعامل مع الغرب وفقاً للعقلية السودانية المجاملة والمفتقدة للمؤسسية.
وان كان هذا هو سفر التصريحات الأمريكية فأن كتاب الغرب لا يختلف عنه سوى بعض الجزئيات فقط عند إخضاعه للغة الربح والخسارة.
وكان الجنرال النيجيري مارتن لوثر أغوى قائد قوات اليوناميد آخر من سار بتصريحاته يمين الخط العددي السياسي بوصفه للوضع في أقليم درافور بـ (المستقر) وقدم خلال مؤتمر صحفي بمقر الأمم المتحدة دليلاً على ذلك بزيادة عدد الأشخاص الذين يغادرون مخيمات النازحين للعودة الى قراهم وقال هذا يعني أن الناس تشعر بمزيد من الأمان.
ولم يكن أغوى سوى آخر من سلك ذلك الطريق بإعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية جعلت كثيرين غيره يضعون أنواط شرف عظيمة بصدر السودان ورصاصات صديقة بصدر أوكامبو مدعي الجنائية.
فحملت الأنباء الواردة من الأمم المتحدة أخباراً عن سوء العلاقة بين أمينها العام بان كي مون ومدعي الجنائية الدولية أوكامبو لدرجة لا يطيق فيهما أحدهما الآخر إستناداً إلى ان مون حاول ولأكثر من مرة إثناء أوكامبو عن إصدار مذكرة التوقيف بحق الرئيس البشير لمعرفته بالعواقب الوخيمة الناجمة عن ملاحقة البشير خصوصاً وأن الدستور الإنتقالي نصّبه كضامن أساسي لإنفاذ (نيفاشا) إضافة للأدوار المهمة التى يلعبها في حفظ الإستقرار وتحقيق السلام بدارفور.
ومن جانبه أعتبر يان برونك المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة فى السودان أن ملاحقة رئيس على سدة الحكم أمراً فريداً ويجب الا يتم إعتباطاً ودون دراسة لنتائجه. وأبدى شكوكه في إمتلاك أوكامبو لأدلة تشير لتورط الرئيس البشير بإرتكاب فظائع في دارفور وهو ذات ما ذهب اليه أندرو ناتسيوس المبعوث الأمريكي السابق لدى الخرطوم، الذي قال بأن قرار الجنائية لا يستند الى مرجعيات ويعطي إشارات خاطئة للحركات المسلحة لتبني مواقف متعنتة ما يؤدي الى تأخير التوصل لتسوية لإنهاء أزمة دارفور وتهديداً لإتفاق (نيفاشا) وربما العودة لمربع الحرب.
غير أن كل تلك التصريحات وإن وصلت سمع الدول الغربية فإنها لم ترد فيها الحياة لإمضاء مواقف قوية ومناهضة للجنائية فطفق أوكامبو في تنقلاته بين العواصم الغربية على ترديد: (القاء القبض على الرئيس البشير ليس الا مسألة وقت) ما جعل من كل تلك التصريحات الإيجابية شيكات بلا رصيد والمكان الوحيد لصرفها شاشة التلفزيون القومي على (صورة) شهادات ضد الجنائية.
التصريحات الغربية وعلى مصداقيتها النادرة لا تغادر خانة الإستهلاك المحلي والإعلامي وعلى الحكومة حال أرادت تجسير الهوة بينها والغرب أن تعمل على خلق تفاهمات بين شريكي حكمها وترتيب بيتها الداخلي ومن ثم الخروج بموقف موحد تجاه الغرب عوضاً عن تبني مسارات متوازية ومتناقضة أول ما تضر بالبلاد، يلي ذلك إعمال مبدأ الحوار القائم على معايير المصالح المشتركة والدول الغربية كآلية لتطبيع العلاقات.
والى ذلك الحين فإن على الحكومة أن تتعامل مع كل تصريح إيجابي بكثير من الإفراط في الحذر ومن دون التفريط بالأمل وعده -بغض النظر عن موعده الذي أطلق فيه- بالصادر في شهر (أبريل) الى أن تثبت (مصداقيته) بياناً بالعمل.
مقداد خالد :الراي العام