د. محمد بدوي مصطفى
تجليات: “محاكم الغربان … وذكاءها الخارق في تطبيق العدالة!”
من حِكَم المولى عز وجل في كتابه الكريم أن يرسل طائرا يؤدي دورا تعليما للإنسان، وهو الذي برأه وأحسن خلقه كخير البريّة. كان دور الغراب في هذه الآيات تعليم ابن آدم، الذي قتل أخيه، كيف يواري جثته تحت الثرى. والسؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: لماذا اختار الله تعالى الغراب من دون المخلوقات أو قل الطيور أو الحيوانات الأخرى؟ أمر عجيب فعلا. ذلك يؤكد، ومنذ ١٤ قرنا، عظمة كتاب الله وما تنطوي عليه من درر كامنة وحكم جليّة بين دفتيه. لقد صرنا يا سادتي وبكل أسف نحمل هذا الكتاب العظيم ولا ندري تلك الدرر التعليمية التي يحملها في طياته. أصرنا كالحمير نحمل أسفارا أي كتبا ولا نعي قيمتها؟ وكما جاء في قوله تعالى: (الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). أو كقول الشاعر في تناصه مع الآية الكريمة:
إن الرواة على جهل بما حملوا مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
الجدير بالذكر أننا نجد تلك القصة أيضا في تواره العهد القديم. قابيل وهابيل هما شخصيتان ذكرتا في توراة العهد القديم، وهما أول ابنين لآدم وحواء. كان قابيل يحرث الأرض أما هابيل فكان يرعى الغنم، وفي يوم من الأيام قررا أن يعبدا الله بالصلاة التي كانت تترجم وقتذاك بتقديم القرابين وحرقها. وكلمة “صلاة” في حد ذاتها مشتقة من المصدر “الصَّلَى”، التي تعني “النار والوقود” وكان ذلك عرفا في العهود الغابرة في طرق حرق القرابين المقدمة للآلة وللأرباب. وفي التوراة نجد الكثير عن قصة الصلاة وعن تقديم القرابين وعن قتل قابيل لأخيه هابيل كما يلي: “وحدث من بعد أيام، أن قابيل قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب. وقدم هابيل أيضاً من ابكار غنمه ومن سمانِها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابيل وقربانه لم ينظر. فأغتاظ قابيل جداً، وسقط وجهه. ولم ينظر الرب إلى قربان قابيل لأنه كان مخالفا لما كان يتطلبه وهو الذبيحة الدموية أما هابيل فقد فعل. يقول الكتاب: بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قابيل. فبه شُهِد له أنّه بارٌ إذ شهِد الله لقرابينه. حيث قابيل ادعى إيمانه بالرب ولكنه لم يفعل. لم يقبل الرب قربان قابيل فأغتاظ قابيل جداً وسقط وجهه. فقام على أخيه هابيل في الحقل وقتله، فقال الرب قايين أين هابيل أخوك؟ فقال لا أعلم؛ أحارس أنا لأخي. فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ من الأرض. فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملْت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض.”
لقد أوضح الدكتور زغلول النجار في كتابه (“من آيات الإعجاز العلمي؛ الحيوانات في القرآن الكريم”). أن مملكة الغرابان مملكة لها قوانينها الدقيقة ومنها الرادعة، انطلاقا من مساطر العدالة الفطرية التي وضعها الله في كتابه الكريم. وليس بمحض الصدفة أن جعل الله الغراب بطلا في الآية أعلاه! أراد سبحانه وتعالى ها هنا أن يؤدب الانسان، خير المخلوقات، ويهديه إلى سبل السلوك القويم سيما في جريمة ارتكبها أخ تجاه أخيه! وقد تطرق الدكتور زغلول في دفات كتابه لذلك وكما أثبتت دراسات عديدة عن سلوك الحيوان في علم الأحياء أن الغربان – من دون الطيور الأخرى تمتلك أكبر حجم لنصفي دماغ مقارنة بنسبة حجم الجسم عند الطيور الأخرى. وقد أثبت علماء الأحياء أن الغراب هو، بدون أدنى شك، أذكى الطيور وأدهاها على الاطلاق. وتحدث د. زغلول عن محاكم الغربان التي تقاضي فيها الجماعة أفرادها من الغربان على جنح وجرائم ارتكبوها. وكل جريمة أو جنحة لها في مملكة الغربان عقوبتها الخاصة بها! فجريمة عقوبة اغتصاب واستلاب طعام الفراخ الصغيرة تقتضي أن تقوم الجماعة بنتف ريش الغراب المعتدي حتى يصبح عاجزا تماما عن الطيران، فيصير بعدها، كتلك الفراخ التي استلبها قوتها قبل أن تنمو وتصبح قادرة على الطيران. ومن الأشياء الطريفة في مدينتنا هنا أن لكل زوج (ذكر وأنثى) من الغربان منطقة مختصة به (كالمملكة) يحكمان فيها سويا حتى الممات كما ويبقيان على العهد طيلة العمر بعد الاقتران. ذلك يذكرنا بحدود القطط، برية كانت أم أليفة، والتي تدافع عنها بجسارة فإما تربح وتبقى بها وإما تخسر وتتقهقر لقط آخر يستلم المكان من بعدها. إذ يعلّمون حدود ملكية الأرض ببولهم كما نعلم. ومن طرائف الغربان – في مدينة كونستانس الساحرة والتي ترقد على بحيرتها كالهمزة على سطرها – أنها مثلا تحمل ثمار الجوز التي هي أشبه في بنيتها القوية بثمار أشجار التبلدي (القونقوليز) إذ أن هذه الثمرة تكمن في داخل القشرة القوية. فتطير الغربان محلقة بها فوق شوارع الأسفلت وترمي بها حتى تنكسر فتنهم الثمرة التي بداخلها. وهذه مناظر معهودة في الريف الأوربي.
وبالرجوع إلى محاكم الغربان نجدها جديرة بالتمعن والدراسة فعقوبة جريمة اغتصاب العش وهدمه، كما جاء في كتاب د. زغلول، تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي أو الجاني بأن يشيد عشا جديدا للغراب المجني أو المعتدى عليه. ومن ثمة جرائم اغتصاب إناث الآخرين تقتضي بقتل المغتصب ضربا بالمناقير حتى النهاية. تتألف محاكم الغربان في الحقول الزراعية، وهنا في مدينتا على ضفاف البحيرة الساحرة، توجد مناطق تتجمع فيها الغربان بشكل مذهل وكأنها قبيل غروب الشمس تعقد محاكمها هذه. فعندما تجتمع هيئة المحكمة في تلك الحقول يؤتى بالغراب المتهم تحت حراسة مشددة وتبدأ محاكمته فيكنس رأسه كما هي الحال في محاكم بني آدم ومن ثمة يخفض جناحيه مستكينا ويكف عن النعيق اعترافا بذنبه. فإذا صدر حكم هيئة المحكمة عليه بالإعدام، يتم تطبيق الحكم على الفور، ساعتئذ تنتفض الجماعة بأسرها على المذنب وتوسعه ضربا مبرحا بمناقيرها الحادة حتى الموت وبعدئذ يتم حمله من قبل أحد الغربان ليدفن في قبر أو حفرة بحجم جسده فيوضع داخلها القتيل ومن ثمة تهيل الجماعة عليه التراب احتراما لحرمة الموت. ولله في خلقه شؤون!
تجليات:
“محاكم الغربان … وذكاءها الخارق في تطبيق العدالة!”
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
[email]mohamed@badawi.de[/email]
(صحيفة الخرطوم)