المسئولية المدنية في قضايا النشر … هي الحل!
يعتقد كثير من المهتمين بشأن الصحافة في السودان أن المساعي التي نبذلها في توسيع المسئولية المدنية في قضايا النشر خصما على الجنائية … مجرد جدل أفندية وأكاديميين وناشطين متأثرين بالتجارب الغربية في التشريع وحقوق الإنسان.
وبعضهم يكاد يقول … حتى بوجود المسئولية الجنائية لم تستطع المحاكم كبح جماح الصحف والصحفيين فكيف لو تحولت المسئولية إلى “مدنية خفيفة” وهنا يكمن الخلل والوهم بأن المدني خفيف والجنائي قوي ورادع.
بعيدا من قضايا النشر وقريبا من التفريق بين المدني والجنائي … أيهما أشد قوة في تنفيذ قانون المرور … وبالذات ترخيص السيارات؟! حجز المركبة إلى حين الترخيص أم إلقاء القبض على صاحبها؟ أم الإثنين معا؟ الإجابة الصحيحة الأولى لأن المركبة محجوزة والشخص المعني بتوفير المال قادر على الحركة.
وبهذا المدخل من المقارنات يمكن إيراد عدد من المسائل نجد فيها أن الحديث عن المدني الخفيف والجنائي الثقيل مجرد وهم لا أساس له من الصحة.
تنشيط مبدأ المسئولية الجنائية في مواجهة التفلتات الصحفية وجرائم النشر أشبه بقتل الذباب بالمنشة … ويمكنك تخيل الحالة لشخص “مغتاظ” من الذباب يصول ويجول في الغرفة بالمنشة ويترصد الذبابة حتى يتمكن من قتلها وعلى رأسه مئة ذبابة وهو لا يكترث إلى أن قذارة الغرفة ونوافذها المفتوحة ستدخل آلاف الذباب.
المسئولية الجنائية لا تعالج الموقف إنما تشبع للمتضرر حالة نفسية بالبطش والزجر والتسلط أما المسئولية المدنية يمكنني أن أشبهها بحالة أخرى … شخص ينظف غرفته اولا بأول … ويكسو نوافذ الغرفة بـ “الشبك النملي” … ويرش المبيد لفترات محددة من اليوم.
لاحظوا انني لم أتحدث حتى الآن عن إلغاء كامل للمسئولية الجنائية إنما توسيع للمدنية خصما عليها وهو امر يطول شرحه … فالقتل الخطأ لديه نموذج مشهور وهو حوادث السيارات والقتل العمد لديه نموذج مشهور وهو الذبح … ولكن قد يقتل الجزار مساعده بالسكين أو الساطور “خطأ” وقد يتم اغتيال شخص دهسا بالسيارة “عمدا” … هذا المثال فقط للتدليل على أن الأصل الراسخ يمكن الخروج عليه في التطبيق.
الصحف مؤسسات ربحية والصحفي شخص يتكسب من العمل في هذه المؤسسات ولذلك إيقاع العقوبة على المؤسسة وذمتها المالية بالحجم الذي يردع المؤسسة عن الاستثمار في التفلتات اقوى بكثير من الملاحقة الجنائية في شخص الصحفي أو رئيس التحرير الذي لن تتوقف صحيفة بدخوله للحراسة ولن يخسر الناشر إعلانا واحدا بل ربما يستفيد أكثر.
تقدير التعويض على أسس مدنية يختلف لأن المحكمة تنظر للضرر الخاص والعام معا ولكن في الجنائي تعالج الضرر العام بالعقوبة ثم تقدر الخاص بالتعويض. ولهذا في الدول التي تعتمد على المسئولية المدنية في قضايا النشر توجد احكام بمبالغ مالية ضخمة لا توجد في البلدان التي تعتمد على المسئولية الجنائية.
نعم صحيح … كثيرا ما يدفع الحكوميون بأن الغرض أحيانا كف الصحيفة عن خط ضار للغاية ولا بد فيه من إجراء أمني عاجل أو على أقل تقدير لا بد من قضية جنائية.
لو كان المقصود بهذا الأمر المهددات الامنية والإعتداء المباشر على القوات المسلحة لقلنا إن هذا الحديث مبرر نوعا ما … ولكن من الخطأ الاتكاء على هذا المبرر لترسيخ منهج في التعامل مع الصحف في كل قضايا النشر مع مزج المهددات السياسية بالمهددات الأمنية بل والمهددات ضد شخصيات في نفوذها بالمهددات العامة.
إيراد إستثناء جنائي أو أمني بغرض تعميم منهج جنائي أمر غير ضروري فالمسئولية المدنية لا تمنع الاستثناء الجنائي أو الأمني من الأساس إنما تخضعه لرقابة قضائية لاحقة للتنفيذ.
نهاركم سعيد – مكي المغربي
صحيفة السوداني