التكفير.. قديم متجدد
نفضت المعارك (البيانية) بين الحزب الشيوعي السوداني ورابطة علماء المسلمين الأسبوع الماضي الغبار عن ملف كاد يسقط من ذاكرة المجتمع السوداني لغيابه عن الساحة وقتاً ليس بالقصير.. فملف (التكفير) شهد صعوداً مقدراً لسطح الحياة السودانية اليومية فترات عديدة تترك اثرها على إدارة الشان اليومي للجهات المكفِّرة والمكفَّرة معاً..
والتاريخ الإسلامي عموماً والسوداني خصوصاً ملئ بحوادث التكفير التي لا تنتهي مسوغاتها باختلاف عهودها ولم تكن حادثة الشيوعي صاحب الحظ الأوفر من فتاوى التكفير الأخيرة كما إن قراءات المراقبين تؤكد أنها لن تكون الأخيرة.. وتذكر بعض المصادر أن علماء قدامى كفروا شيخ المتصوفة الطريفي ود الهميم لانه تجاوز الحد الشرعي في عدد الزوجات (ورد ذلك في كتاب الطبقات لود ضيف الله)، وكان قد سبقه علماء ازهريون إلى تكفير الإمام محمد أحمد المهدي الذي بدوره رد سهمهم إليهم ورماهم بالكفر، والتكفير لم يكن مربوطاً بذوي الإتجاهات اليسارية فقط فكثير ممن يدينون بالإسلام كانوا ضمن من كفروا فقد تم تكفير الشاعر الراحل التجاني يوسف بشير ، وتحتفظ الذاكرة السودانية باسم محمود محمد طه كأبرز من اتهم وحوكم واعدم بتهمة الردة والتكفير بسبب آرائه الفكرية الجديدة.
وكان الشيوعي الذي أعاد تكفيره للأذهان تلك القصص القديمة، قد حل تماماً وأبعد عن الساحة في ستينيات القرن الماضي وعلى امتداد العهود وتقدمها تنوعت دعاوى التكفير وطالت أسماء سودانية لامعة إلا أنها لم تصل مرحلة التحاكم إلى القضاء أو الإتيان بأفعال تنفيذية تعقب الفتوى، وتم تكفير د. حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي في العام 2006م بسبب آراء فقهية كفرته إثرها جماعة الرابطة الشرعية للعلماء المسلمين وجماعات أخرى وبعض العلماء، سبقها تكفير عدد من الكتاب والمثقفين منهم الأستاذ كمال الجزولي، الصحفي الحاج وراق، الراحل د. فاروق كدودة بسبب آراء تقدمية، وكان النيل أبوقرون احد الذين أهدر دمهم لكتابات تسب الصحابة، وتم تكفير الصحفي الراحل محمد طه محمد أحمد، وغيرهم تطول قائمتهم.
والواضح أن الظاهرة في تنامي وتطور مع تطور المجتمع وتعدده، إلا أن تساؤلات مهمة تطل برأسها عن مدى تأثير هذه الظاهرة على الحياة السياسية ومجمل الحياة السودانية، ويعتبر مراقبون أن الفتاوى التي ترد بهذه الطريقة لا قيمة لها ولا تأثير على الرأي العام ويستدلون على ذلك بحل الحزب الشيوعي الشهير الذي أعقبه ترشيح عبد الخالق محجوب في انتخابات 1968م في دائرة أم درمان الجنوبية وفاز رغم حل الحزب بفتوى أنه ضد الدين وكل الأحزاب كانت ضده، وكان هناك شعار الدستور الإسلامي، كما أن واحدة من أسباب قيام مايو كانت إتجاه اليساريين للعمل العسكري ووجد إنقلاب مايو ترحيبا، ولذلك يرى هؤلاء أنه من الممكن القول إن هذه الفتاوى لا تأثير لها على مجمل الحياة السياسية والإجتماعية في السودان.
وكان الشيخ محمد عبد الكريم إمام المجمع الاسلامي بالجريف غرب قد أكد في حوار سابق أجري معه أن التكفير لا ينبغي أن يطلق إلا من أهل العلم والمتخصصين ولا يجوز للشباب أن يخوضوا في قضية تكفير الأفراد ولا الجماعات وأهل العلم والدراية فقط هم من لهم الحق في تكفير الأفراد واصدار الفتاوى، وأن الشريعة لا بد فيها من مراعاة المصالح والمفاسد، وأشار إلى أنهم يكتفون بإصدار الفتاوى فقط ويعقبونها غالباً بمحاضرات توعوية وقال: (نحن لا نزيد على البيان باللسان لأن الرد بغير ذلك والتعدي على الآخرين يؤدي لنوع من الفوضى في المجتمع، وبيننا وبين الجميع الساحة الفكرية، كما أكد في ذلك الحوار إنه لا يحق لأي شخص أن يصدر الفتاوى إلا من له أهلية في العلم.
لكن رغم هذه الرؤية إلا أن د. اسامة زين العابدين أستاذ العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري يعتقد أن صداماً برز أبكر مما توقع، ويرجح أن الأمر سيكون أعمق تأثيراً في المستقبل، ويضيف أن إنعاكسات الظاهرة السالبة مستقبلا كثيرة لكن أخطرها أن الشيوعي أو الأحزاب اليسارية ستستعد لمثل هذه الهجمات وتتخذ مزيداً من الإحتياطات لحماية قادتها وكوادرها ومواقفها ودورها وهذا قد يقود الحزب المدني لبعث أجنحته وتشكيلاته العسكرية، وقد يقود ذلك إلى خطوات تنفيذية وضربات استباقية في إطار المدافعة عن النفس، ويستطرد في سياق آخر بأن دعاوى التكفير قد تأتي في إطار جانب دعائي لإبعاد الحزب عن الساحة.
ويرجع د. أسامة تفشي مسألة التكفير إلى أن التيار السلفي التكفيري نما وهو الآن محل دراسة من المهتمين، ويرى أنه خطراً حقيقياً وأسوأ من كل أنواع الخلافات المذهبية الأخرى، ولا يستغرب أن تتخذ وضعها على الساحة السودانية، ويقول إنه كان يتوقع حدوث صدام بين هذا التيار وبين القاعدة الجماهيرية السودانية الصوفية بطبيعة حالها، ولا يحمل د. أسامة مسؤولية حدوث ذلك للحكومة لأنه ناتج عن نمو هذا التيار.
ويستبعد د.أسامة أن تقود مثل هذه الفتاوى الحركة الإسلامية إلى الأخذ بها وتكرار نفس سيناريو حل الحزب في الستينيات لأن الإسلاميين أنفسهم يعتقدون ان حل الحزب الشيوعي وقتها كان من أكبر الأخطاء.
وفي ذات المنحى يشدد د. الطيب زين العابدين استاذ العلوم السياسية على أن تهمة التكفير يمكن أن تقود لتهديد أمن وسلامة المجتمع، ويشير إلى أن هذا ما حدث بالفعل في حالة الشيوعي مؤخراً، ويقول بالطبع من المتوقع مدافعة الحزب عن داره والدفع بمنشورات مضادة، ولكن د. الطيب يقول إن السؤال الملح أكثر من الأثر هو ما مسؤولية الدولة تجاه التكفير؟ ويستطرد: لا منطق في وجود قانون يجرم إشانة السمعة والقذف والإخلال بالأمن والطمأنينة العامة ولا يجرم تهمة التكفير التي تقود لتهديد أمن المجتمع، ويضيف: إلى متى تتحمل الدولة هذا؟ هل ستنتظر الدولة أن يحدث في السودان ما حدث في بلاد أخرى. ويتصل عرض د.زين العابدين لوجهة نظره بالقول إنه ليس من حق أي شخص أن يكفر الناس في دولة فيها تعدد، فهي فتنة جاهزة في المجتمع فالتكفير يكون لشخص وليس لجماعة بالالآف فقهياً، وعلى الدولة أن تجرم وتحظر التكفير، ويضيف ان المجتمع أكثر تأثراً بهذه الظاهرة وليست السياسة فقط.
وكيفما كان الأمر فإن الظاهرة ليست جديدة ومرتبطة بجذور الأمة وتاريخها رغم الإختلاف حول صاحب الحق في إصدارها وكيفية التعاطي معها، وإن كان هناك إتفاق على أن تقنن وعلى أن يكون لكل دور في النأي بها عن الغرض ومراعاة القوانين والدساتير والتعدد غير المحدود.
عوض جاد السيد :الراي العام