جعفر عباس

الحصة هندسة معمار

[JUSTIFY]
الحصة هندسة معمار

خرائط كل البيوت في بلدتنا جزيرة بدين في شمال السودان النوبي من تصميم نفس المهندس، مما يعني أن جميع البيوت متشابهة (لأكون أكثر دقة «كانت متشابهة»، ولكن في السنوات الأخيرة تخلى كثيرون عن التصميم التقليدي للبيت النوبي الذي ورثناه عن مهندسين شيدوا حضارة عتيدة قبل آلاف السنين واختاروا التصاميم المتفرنجة المنقولة عن المدن)، فكل الغرف في بلدتنا تكون في الجانبين الغربي والشمالي من البيت بمعنى أن الجدارين الشرقي والجنوبي يكونان خاليين من المباني، وأهم غرفة في البيت هي «متّون نوق» أي الغرفة الشرقية («مَتّو» في اللغة النوبية هو الشرق ونوق تعني بيت») وتكون تلك الغرفة مخصصة للرجال، ليس بمعنى أن رجل البيت يقيم فيها ولكن بمعنى «مضيفة رجالية»، وتلاصق تلك الغرفة أخرى طويلة ذات أهمية استراتيجية، فمن على سقفها تتدلى أعواد طويلة من فروع الأشجار الجافة معلقة بحبال، وفي كل عود عدد كبير من الحمالات المصنوعة من الشعر توضع في جانب منها أقداح ضخمة مصنوعة من الخشب يسمى الواحد منها بالنوبية «كوس»، تستخدم في الولائم، والطعام الذي في الكوس الواحد يكفي عشرة أشخاص من فصيلة أشعب، وفي الجانب المقابل لصف الكوس تتدلى أطباق/ صحون من النحاس يمسى الواحد منها «سِلم»، بكسر السين وفتح اللام، ولكن مظهرها العام يوحي بأنها مصنوعة من خشب الابنوس الأسود ذلك أن النحاس يصدأ بسرعة، ولا تسترد تلك الاطباق بعضا من لونها الطبيعي إلا في مناسبات الزواج عندما يتم جليها (تلميعها) بالتراب، فعند عقد قران تمهيدا لإتمام زيجة يتم تقديم التمر والكعك للمدعوّين في تلك الأطباق النحاسية.
بيوتنا كانت ومازالت مبنية من الطين، فإذا أردت تشييد بيت فإن البناء يحفر أي بقعة قرب البيت ويسقي التراب بالماء و«بالهنا والشفا»، ويتناول البناء من مساعده كتلا من الطين ويصفها بطريقة مستقيمة من دون الاستعانة بأي أداة، وعندما يصل السور الخارجي الى ارتفاع معين، تتم زخرفته بطوب مصنوع من الطين بنظام «الزقزاق» أو 7 و 8 فيضفي على البيت مظهرا جميلا، أما الغرف فتكون عالية الارتفاع لأن الصيف عندنا في شمال السودان قطعة من جهنم، والبناءون غير مطالبين بتركيب السقوف، فهذه مهمة جماعية يتولاها أهل الحي، لأن السقف يصنع بنسج جريد النخل ثم حصائر تسمى «سلاتي» بكسر السين، تصنع من عيدان القمح، ويتم وضع عيدان خشبية ضخمة فوق كتل من الحجر الجيري في نقاط معينة على رأس جدار كل غرفة، أي أنه يكون هناك فراغ بين السقف والجدار «للتهوية» وليكون هناك عازل بين السقف المصنوع من مواد عشبية والنمل الأبيض (الأرضة)، وهي نوع من الحشرات يعمل جماعيا، ويفتك بالأخشاب والأحذية خلال دقائق ويقوم بتخزين الفتافيت في مملكته.
وفي الركن الغربي من البيت هناك «تنون نوق» أي الغرفة الغربية ولا يوضع فيها عادة أي أثاث، بل بضعة أزيار وأوان فخارية كبيرة، يوضع فيها التمر والحبوب للاستهلاك اليومي، بينما يتم تخزين «المؤونة» الطويلة الأجل من قمح وذرة وتمر في أواع ضخمة شكلها شبه اسطواني على امتداد السور الجنوبي او الشرقي وتسمى الواحدة منها «قُسي/ قسيبة»، وتصنع من الطين المخلوط بروث الغنم فتكون صلبة، (لا تسد أنفك فرائحة الروث تزول بالتعرض لأشعة الشمس، وفي الجانب الغربي من البيت توجد غرفة العمليات «إيقن شا»، أي غرفة الطبخ، و«إيق» هي النار في النوبية، ويكون في تلك الغرفة فرن عجيب لصنع الرغيف (الخبز) والكعك في المناسبات الدينية والأفراح، فقد كان الرغيف ترفا لا نعرفه إلا مرة كل بضع سنوات، وحتى الكعك الذي كانت تصنعه أمهاتنا كان يفتك باللثة لأن الخميرة المستخدمة في صنعه كانت تجعله في قوة اللوح الخرساني، وجوار المطبخ مباشرة كانت هناك غرفة الحمار «كجن نوق».. نعم فقد كانت الحمير تربط داخل البيت ومعها البهائم.
أستحضر حقبة مضت لأنني ما كنت أحسب أنني سأقيم يوما ما في بيت «مسلح ومبلط» وفيه شبابيك (بيوتنا في شمال السودان لم تكن تعرف الشبابيك ومع هذا يصمد البيت الواحد أكثر من قرن من الزمان لأن منطقتنا لا تعرف الأمطار).
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]