جعفر عباس

تخاريف الإذاعات

[JUSTIFY]
تخاريف الإذاعات

كان الراديو أغرب المعجزات في تقديرنا في فترتي الطفولة والصبا، وكان في بلدتنا (جزيرة بدين) وهي أكبر مساحة من عدد من مدن السودان المعروفة، نحو ثلاثة أجهزة راديو، وكما قال ابن خلدون عن أهلي النوبيين «قوم بهم خفة وطرب» فقد كنا نقترب من بيت العمدة أو ناظر المدرسة او قريبنا شيخ موسى سيد (أكليش)، لنستمع إلى الأغاني، لأننا وبسبب عجمة ألسنتنا لم نكن نفهم ما يقوله الراديو خلال نشرات الأخبار أو البرامج الحوارية (كلمة «أكليش» التي صارت اسم عائلة قسرا لبعض أقربائي دليل قاطع على أن عجمة اللسان تفتك باللغة العربية وتلحق بها أذى جسيما، ونشأت تلك الكلمة عندما كان عمنا «سيد شيخ موسى» رحمه الله والذي عاش حينا من الدهر في مصر يقوم بشق مجرى للماء لري مزرعته في ذات نهار شديد الحر، فقال له أحد المارة: لماذا تجهد نفسك وتتعب في هذا الجو القاسي؟ فرد عليه عم سيد: أكل عيش، وسمع بعضهم تلكما الكلمتين الغريبتين وتداولها ولكن بعد أن جعلوها «أكليش»، فكما شرحت مرارا فأهون على النوبي أن يتعلم اللغة الصينية في أسبوع من أن ينطق حروف مثل العين والحاء والخاء).
لعل السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا تنطلق فيه الإذاعة والتلفزيون الرسميين من مدينة غير عاصمته الرسمية، فلأسباب تاريخية فإن أم درمان التي ترتبط بالخرطوم بعدد من الجسور هي المدينة الحاضنة لأفضل أندية كرة قدم وأميز الشعراء والمغنيين والعلماء والمجانين، فكان من الطبيعي أن تحتضن الإذاعة والتلفزيون في جمهورية السودان (أو ما تبقى منها)، وكنا نعجب كلما سمعنا الراديو يقول: هنا أم درمان ونتساءل: الراجل دي عبيطة وللا شنو؟ كيف ما يقدر يفرز بدين من أم درمان، ولكن بعض ذوي التجارب أكدوا لنا أن الراديو يعاني بطبيعته من الخرف لأنهم سمعوه يقول «هنا أم درمان» وهم في أماكن أخرى قريبة من بلدتنا (بدين)، ثم تأكد لنا لاحقا أن جميع الإذاعات مصابة بالخرف بعد ظهور أجهزة راديو حديثة صرنا نسمع منها كلاما غريبا مثل «هنا القاهرة»، «هنا لندن».. ولم يكن بالطبع مسموحا لنا نحن الصغار بالتواجد بالقرب من جهاز الراديو بل كنا نجلس قرب أقرب جدار للمكان الذي يضم الراديو بينما علية القوم يتحلقون حوله، وكنا نكره يوم الأحد فلسبب لا أفهمه إلى يومنا هذا كانت إذاعة «هنا أم درمان» تأخذ إجازة في ذلك اليوم. وذات إجازة صيفية طلب مني والدي أن أزوره في مكان عمله في مدينة كوستي، وكانت معه وقتها أختي الراحلة فاطمة عباس وشقيقي الذي يكبرني مباشرة عابدين (أسماه أبي عبدالحفيظ ولصعوبة حرفي الحاء والظاء على ألسنتنا كنا نناديه «أبدو»، ونقصد بها «عبده».. فكما ذكرت من قبل فإن لنا مشكلة عويصة مع حرف العين أيضا، ولم نكتشف نحن ولا هو أن اسمه في شهادة الميلاد عابدين إلا عندما التحق بالمدرسة المتوسطة، ومن المؤكد أن الداية التي سحبت رجله وأنزلته من بطن أمي هي التي أسمته عابدين، وأغلب الظن عندي أن والدي النوبي قال لها إنه يريد أن يسميه «أبد الهفيس» أو «أبد الهفيد»، واستشكل الأمر عليها لأنها لم تسمع من قبل آدميا يحمل مثل ذلك الاسم فاختارت له اسم عابدين فأراحتنا من الحاء والظاء وصار نطق اسمه سهلا على ألسنتنا «آبدين».
وغدا بإذن الله أحكي لكم عن العجائب التي رأيتها في مدينة كوستي.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]