جعفر عباس

لأبي الجعافر فرحتان

[JUSTIFY]
لأبي الجعافر فرحتان

كان الممتع في أمر سفر قروي لم يتعامل مع الكهرباء أو الماء النظيف الذي يسري عبر مواسير، إلى المدينة (كوستي) من بلدته (بدين)، الجزيرة النهرية التي لم تدخلها قطّ حتى عربة كارو في ذلك الزمان، كونه سيقضي العطلة الصيفية بأكملها في «نعيم» يستحم بالدش وليس «الطشت»، ويأكل الرغيف يوميا بدلا من الكسرة المصنوعة منزليا، بل بدأت المتعة منذ بدء الرحلة التي تستغرق أكثر من يومين، فكما للصائم فرحتان، فقد كانت لصاحبكم المسافر إلى كوستي فرحتان: الأولى ركوب عربة لوري lorry (شاحنة تم تزويدها بمقاعد ذات زوايا قائمة تجعل كبار السن ينزلون منها بعد الرحلات الطويلة وهم مصابون بانزلاق غضروفي وبواسير وشدّ عضلي)، وكنت قبل تلك الرحلة قد ركبت اللوري عدة مرات، ولكن فقط في الأعياد حيث كنا نذهب الى كرمة بمركب موناب (بلا شراع وأصل التسمية جاء من عالم الأغنام حيث المعزة التي بلا قرون تسمى باللغة النوبية «موناب») ثم نقدم خمسة قروش لسائق لوري ليطوف بنا نحو عشر دقائق، وبالتالي لك أن تتخيل مقدار سعادتي وأنا أعرف أنني سأركب اللوري عشر ساعات، وكانت تلك اللواري التي تعمل ما بين كرمة وكريمة تسمى «المحيلة» ولا أعرف من أين جاءت تلك التسمية، وبسبب طول تلك الرحلة التي يعقبها ركوب القطار يا للسعادة لنحو عشرين ساعة حتى الخرطوم، ومنها القطار المسمى مشترك الأبيّض حتى كوستي لنحو 14 ساعة، كنت أحس بما يحسه من يركب مكوك فضاء ويطوف حول المريخ في زمننا المعاصر.
صبرت ونلت يا أبو الجعافر، وطبعا لم يكن واردا أن يسافر شخص في مثل سنّي تلك في غير رفقة قريب أو أحد أهل البلدة، ولم يكن واردا أن يسافر من دون أن يحمل «زوادة»/ طعام السفر، ففي ذلك الزمان لم يكن قد تم اختراع الكافتيريات، ولو سمعنا بها لقاطعناها لأن في اسمها شبهة الكفر او الانتماء للكفار، وإلى يومنا هذا مازال بعض أهل الريف في السودان يحسبون الكافتيريا اسم دلع يطلقه أهل المدن على إبريق غلي ماء الشاي الذي نسميه في السودان كفتيره، وليس في هذا شطط فقد كنا نعرف الراديو، واكتشفنا ان أهل المدن يسمونه «الرادي»، وكنا نعرف أن كلمة «هسع» تعني «الآن/ ها الساعة»، فإذا بأهل المدن يحورونها إلى «هسه» ثم إلى «اسِّي». المهم أنني كنت أحمل زادي وهو قراصة (قرص) مصنوعة من دقيق القمح مخلوطا بالتمر والسمن، مما يبقيها طرية وصالحة للأكل لعدة أيام، وعلى كل حال فتلك أيام كانت فيها صلاحية الأطعمة والأدوية مفتوحة (بالمناسبة إلى يومنا هذا لا أنظر إلى تاريخ صلاحية الزبادي/ الروب طالما هو في الثلاجة، وعندنا في السودان مازالت العديد من البيوت في المدن والأرياف تصنع الروب منزليا، وبعد أن يصبح اللبن (يا بقية العرب، اللبن في صحيح اللغة هو ما يخرج من ثدي البهيمة طازجا وأنتم تسمونه «حليب» بينما كلمة لبن عندكم تعني الحليب المختمر الحامض ثم تسمون الزبادي «روب» مع أن اللبن المختمر/ الرائب هو الروب).. المهم بعد أن يختمر اللبن ويصبح رائبا يتم استخدامه، وكلما انخفض منسوبه في الوعاء أضافوا إليه لبناً جديدا، وهكذا قد تشرب لبنا رائبا بدأت عملية تخميره قبل سنة أو أكثر، لأن الوعاء الذي يحويه لا ينبغي ان يتعرض للغسل كي لا يفقد الباكتيريا والخمائر التي تجعل محتواه مستحقا لمسمى روب، ولم أسمع قط عن شخص تسمم لأنه تناول روبا بدأ تخميره قبل شهور أو سنوات، من مثل ذلك الوعاء.. وعشت وشربت لبنا مبسترا وأصبت ببلاوي في الجهاز الهضمي لم أصب بها في طفولتي وصباي.
وغدا بإذن الله نواصل الرحلة.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]