من اللوري إلى قطار البخار
انطلقت بنا الشاحنة التي نسميها في السودان لوري نقلا عن lorry الإنجليزية، وأخوكم في منتهى السعادة، لأنه كلما طالت الرحلة كلما زودتني بذكريات أمارس بها الفشخرة والاستعراض على زملاء الدراسة المساكين في جزيرة بدين، الذين لم يسعفهم الحظ مثلي بركوب اللوري لعشر ساعات متتالية، يعقبها ركوب قطار حتى الخرطوم ذات الشنة والرنة، ومنها إلى كوستي التي كانت يوما ما أكبر ميناء نهري في إفريقيا ومركزا ضخما لتجارة المحاصيل الزراعية، ولم يكن في الطريق الذي سلكناه من نقطة انطلاقنا من كرمة حتى محطة القطار في كريمة، متر واحد من الأرض ممهد، ولهذا كان اللوري يتقافز ويتأرجح وكأنه سكران طينة، وتجد نفسك أحيانا طائرا في الهواء و«مطرح ما يسري يمري»، يعني أنت وحظك، فقد تسقط على مقعدك نفسه أو في الممر بين المقاعد أو تصطدم في الهواء بسيدة تعاني من هشاشة العظام فتسمع طقطقة ويحسب الجميع أن اللوري يعاني من الروماتيزم.
ووصلنا الى مدينة كريمة نقطة انطلاق القطار الى الخرطوم، ويا للروعة: قطارات تروح وتجيء بلا هدف وهي لا تجر أي عربات، ورصيف نظيف يمشي فوقه طاقم المحطة بشورتاتهم وقبعاتهم الأنيقة، وهنا وهناك باعة البرتقال والقريب فروت (يسميه أهل الخليج الليمون الهندي ولو ذاقوا القريب فروت السوداني لما اشتروا فاكهة غيره صيف شتاء، ولكن العيب فينا نحن أهل السودان فقد خصنا الله بنوع من القريب فروت عظيم الحلاوة القيمة الغذائية وجوافة تذوق واحدة منها فتنفتح شهيتك فتشتري منها عشرة حبات وتزلطها الواحدة تلو الأخرى لحلاوتها ونكهتها البديعة ثم تعاني من إمساك مزمن لا فكاك منه إلا بإجراء طبي «مهين»… للثقافة العامة فإن الجوافة والحلبة أفضل فرملة/ بريك للإسهال وكلاهما عظيم القيمة الغذائية، ومع هذا فشلنا في تصديرها لأننا صدقنا أننا دولة نفطية، وتبخر نفطنا في غضون عشر سنوات بعد أن دمر إنتاجنا الزراعي والحيواني وبالتالي حياتنا كآدميين)، ولم يكن في بدين التي أعرفها أي فاكهة سوى التمر، بل كان الليمون (يسميه النوبيون «إلبون») نادرا، وفي منطقتنا كانت هناك شجرة ليمون واحدة لعمنا «ساتي» وكانت الحبيبة توصف بـ«ساتين إلبون كمبو» والكمبو هي البيض والحبيبة هنا تشبه حبة الليمون من شجرة ساتي، وهذه ليست شتيمة بمعنى أنها تسبب الحموضة بل إنها ملساء وذات لون متجانس (الليمون عندنا في السودان أخضر اللون وليس فيه النتواءات والكلاكيع التي نجدها في الليمون الذي يباع في منطقة الخليج)، وإذا تعرض شخص للدغة عقرب كان لا بد من اقتحام الزريبة الشوكية التي أقامها ساتي حول شجرة الليمون للحصول على بضع ثمرات، لأن التجربة علمت أهلنا أن الليمون ترياق مضاد لمعظم السموم، ولأن كل شيء كان يسير في السودان بدقة تضاهي دقة ساعة بيغ بن، فقد وقف قطارنا على الرصيف ثم انطلق بنا في الموعد المحدد، وبالمناسبة فإنني لا أذكر قط أنني ورغم سفري بالقطار داخل السودان عشرات المرات أنني دفعت مليما واحدا قيمة تذكرة سفر، فقد كان أبي يعمل في النقل النهري، وكان أخي الأكبر «الحاج» يعمل في السكك الحديدية، وكان من حق كليهما الحصول على تذاكر مجانية لأفراد الأسرة، وبعد أن التحقت بالمرحلة الثانوية ثم الجامعية صار من حقي الحصول على تذاكر سفر بل و«نثريات» سفر من المدرسة/ الجامعة، وخلال رحلة قاربت العشرين ساعة لم تغمض عيني قط، فقد كنت مشدوها بمنظر الصحراء تارة والبساتين تارة أخرى، وكلما وقف القطار في محطة نزلت وتبخترت وتمخطرت على رصيفها متأملا منصات إطلاق الصواريخ التي عرفت لاحقا أنها بيوت بنتها هيئة السكك الحديدية لعمالها وموظفيها، وكانت دائرية وذات سقف مخروطي شديد الارتفاع وناصع البياض يعطي محطات السكك الحديدية ألقا ومذاقا خاصا، وصارت محطتي المفضلة في ذلك المسار «الكاب» فقد كان أهلها يبيعون للمسافرين طعاما جميلا ومشغولات يدوية بديعة الصنع ولحسن حظي كان القطار يقف فيها طويلا للتزود بالماء (كانت القطارات بخارية وبحاجة إلى كميات ضخمة من الفحم الحجري لتحويل الماء إلى بخار لدفع محركاتها).
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]