السينالكو بداية مبشرة

ووصلت «أرض الميعاد» مدينة كوستي بعد رحلة بالشاحنات والقطار استغرقت زهاء اليومين، وكان في انتظاري في محطة القطار في كوستي والدي وإخوتي، وكانت المحطة تشبه المناطق السياحية الريفية الأوربية، التي نشاهدها في وسائل الإعلام: حتى التراب كان يلمع من النظافة، وأشجار باسقة موزعة بمسافات محسوبة بدقة، وعلى الجانب الآخر من المحطة كانت هناك بيوت موظفي وعمال السكة حديد بمعمارها المتميز، ولأن سياج معظمها كان من الزهور والشجيرات القصيرة فقد كان «حي السكة حديد» يبدو وكأنه حديقة ضخمة تتخللها بيوت ذات طابع أوربي، وأحسست بالانتشاء، فها هو جافر أباس القادم من جزيرة بدين سيمضي نحو ثلاثة أشهر في هذه المدينة الأنيقة (زرتها قبل أربع سنوات وحسبت أنني في هيروشيما بعد يومين من ضربها بقنبلة نووية). وبعد المصافحة والمعانقة مع الأهل أتاني أحد إخوتي بزجاجة صغيرة فيها سائل برتقالي اللون، ورشفت منها رشفة صغيرة لسعتني برودتها وأنعشني طعمها، وظللت أشفط منها بالسي سي أي نقطة، نقطة حتى يطول أمد استمتاعي بها، وعرفت لاحقا أن ذلك المشروب يحمل اسم «سينالكو» وكانت في السودان حتى عهد قريب مشروبات غازية راقية منها لويزو والحرية وكيتي كولا ودبل كولا وكوستي كولا، بل كان لكل مدينة كبيرة في السودان «كولا» خاصة بها، وعشقت السينالكو، لأنه لم يفعل بي ما فعلته الكوكا كولا، فخلال وقفتي القصيرة في الخرطوم بحري أتاني أحد أقاربي بزجاجة كوكا كولا مثلجة، وجلست أراقب طريقة شربها لأن ثلاثة آخرين كانوا يجالسونني ونالوا نصيبهم من ذلك المشروب، ثم قبّلت فم الزجاجة كما كانوا يفعلون وأخذت جرعة، فإذا بها تتجه إلى المسار الخطأ، فبدلا من أن تنزل في بلعومي في طريقها نحو المعدة اتجهت إلى أعلى وأحسست بلسعة حادة في جيوبي الأنفية، مصحوبة بانهمار الدموع من عيني، واستنتجت أن الزجاجة لم تقبل قبلتي أو لربما قبّلتها بطريقة خاطئة، فقررت فك الاشتباك مع فم الزجاجة ولكن هيهات، فقد انحشر لساني في عنق الزجاجة مما جعلني أرجح أنها كانت سعيدة بـ«القُبلة»، وبعد مكابدة و«مجابدة»، نجحت في إبعاد الزجاجة عن فمي، فتطاير محتواها على ملابسي، وتمنيت لو تنفتح الأرض وتبتلعني، وهكذا قاطعت كوكا كولا قبل ان تفعل ذلك الدول العربية بحجة أن لديها مصنع في إسرائيل (وجود إسرائيل في حد ذاته لا «يفرِق» مع تلك الدول بس حبكت مع الكوكا كولا.. وطبعا بعد كذا سنة لحست تلك الدول قرارها وسمحت بتصنيع وتسويق الكوكا في أراضيها).
كان بيتنا في كوستي في «الحلة الجديدة»، وتسمية الحي السكني في السودان بـ«الحلة»، تسمية سليمة لغويا لأن «الحلة» هي الموضع الذي يحل/ يقيم فيه الناس، ولم يكن بيتا «أي كلام»، بل مبنيا بالطوب الأحمر وجدرانه مغطاة بالأسمنت، وشتان ما بين شكله وشكل بيتنا المبني من الطين في «بدين»، وأجمل ما في الموضوع أنه كان ملكا لأبي، فقد كان أول شخص من بدين يبني بيتا في كوستي، فاعتبروه «خائنا»: كيف يبني إنسان بيتا بحر ماله في بلد هو فيها «غريب»، فبالنسبة للنوبيين كان «السودان» بلدا أجنبيا، فقد كان من يسافر منهم إلى أي منطقة جنوب ديار النوبة، يقول إنه مسافر إلى «السودان»، ومن يتجه شمالا يقول إنه مسافر إلى مصر، ورغم أن أبي كان أميّا إلا أنه كان ثاقب النظر، فهو لا يريد العمل في الزراعة وارتبط أكل عيشه بمدينة كوستي ومن ثم قرر أن يجعل منها وطنه الثاني، وبعد الانتقال إلى كوستي عرفت أنني سوداني مثل أهل الخرطوم وكوستي وغيرها من المدن الكبرى.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]