التلتلة والتأليم
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ أُضطر فيه لاختيار (عنوان) كهذا لإحدى كتاباتي، وبالطبع لن يُدرك الإنسانْ كل ما يتمناه، ولأنه كذلك فإني اخترت من شائعات العبارات (المتسربعة) شعبياً (التلتلة والتأليم)، لتوصيف وزارة (التربية والتعليم)، لا كي أكيل لها كيلاً خاسئاً أو أكيد لها كيداً خاسفاً، وإنما لأشير إلى ما ظل يكتنف أداءها و(هي في ذلك)، مثل نظيراتها من الوزارات الأخرى، بيد أنها في مرمى النيران إذ تشتغل على التنمية البشرية، ومما اكتنف أداءها من ضعف ووهن (وهبتليِّة) أنها دأبت على (تلتلة) الشعب و(تأليمه) عقوداً عددا، فكسرت السلم التعليمي القديم وأسقطت عنه فصلاً دراسياً كاملاً، وغيرت المناهج دونما دراسات كافية هادفة بطريقة ليست متسرعة فحسب بل فيها الكثير من الرعونة والهوجة – إلى (أسلمة وتديين) التعليم، فلا هي أسست (خلاوى ومسايد ومساجد) ولا هي أبقت على مدارس مدنية مؤسسة على مناهج علمية وأكاديمية متعارف عليها في العالم كله.
ومما يؤلم ويخزي، إصرار الوزارة على المضي قدماً في تنفيذ مناهجها التلقيني الكثيف، واعتماد نظام الــ (8+3)، رغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت إليه، وها هي تلقي به وتتخلى بعد أن عصفت بأجيال كاملة في أكبر عملية لتدمير الموارد البشرية شهدتها البلاد منذ استقلالها، فمعظم خريجي الجامعات الراهنين (قادين عربي وإنجليزي) دعك عن التخصصات الدقيقة الأخرى.
الوزارة تراجعت عن (سلمها) لكنها لا زالت مُتشبثة بمنهجها التلقيني العقيم الذي ها هي ثماره تمشي بيننا (مزيداً من الغباء)، نعم غباء، لأن الأمر الحاسم في قضية الذكاء هو في مقدار النسبة التي تستخدمها من دماغك في عملية التفكير والإبداع، فالدماغ شيء مادي، والعقل هو مقدار ما تستخدمه من دماغك للتفكير والتعليم والابتكار، فطريق الذكاء هو إعمال العقل في ممارسة حل المشكلات والأمور الخاصة بالحياة وطرح الأفكار المختلفة على الآخرين والاستماع الجيد إلى آرائهم (تبادل الأفكار) وتخصيص وقت في حياتنا للتأمل والتأني والتروي، وهذه الأمور لا يتيحها هذا المنهج (الطهراني) المُدعى.
الغريب في أمر وزارة التربية والتعليم، وهذا مما عضد خيار استعارتنا للمصطلح الشعبي الشائع (التلتلة والتأليم)، لتوصيفها به، دون أن يرف لنا جفن، إنها ظلت تسد أذنيها بطينة الصهينة وعجينة عدم الاكتراث أمام كل من ناشدها ودعاها لتغيير الزي المدرسي العسكري إلى زي مدني، لما في العسكري من أثر نفسي كبير على الطلاب، إذ يجعلهم نزاعين نحو العنف، وغير مكترثين لدراستهم، وما إلى ذلك من آثار سالبة عميقة، إلى أن تراجعت عن عنادها في الزي فغيرته (رمادي وأسود للثانوي، وأخضر وأسود للأساس)، تماماً كما فعلت بالسلم.
على أي حال، أن تأتي مُتأخراً خير من أن لا تأتي أبداً، لكن غيرت السلم التعليمي أم لن تغيره، استبدلت الزي العسكري بمدني أم لم تستبدله، فإن وزارة التربية والتعليم ستظل ترزح في (تلتلتها وتأليمها) للبشر ما لم تفصل التعليم عن السياسة والآيدولوجيا، وتغير منهجها الماثل فوراً.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي