جعفر عباس

ما بين الفرح والرعب

[JUSTIFY]
ما بين الفرح والرعب

فرحت فور وصولي مدينة كوستي بعد إقامة طويلة في جزيرة بدين النوبية، لأن والدي كان يملك فيها بيتا خاصا مشيدا بمواد ثابتة، وزاد من فرحتي حلول فصل الخريف، فالأمطار في كوستي لا تعرف الميوعة أو ما يسمى الرذاذ/ الشبورة، بل تنفتح حلاقيم السماء وتكون البداية بقطرات إذا لامست إحداها رأسك تحسب أن مايك تايسون ضربك فيه «هوك خطافية»، وإذا كنت تعتزم الخروج في مشوار مهم ونزلت الأمطار قبل خروجك فانس الموضوع، لأن أمطار كوستي تستمر ما بين 8 إلى 20 ساعة في اليوم، ثم إن الأمطار في كوستي غدارة، فقد تكون السماء صافية وفجأة يبدأ الطوفان الهابط من فوق إلى تحت، وأذكر أول «مطرة» صادفتني في كوستي في تلك الإجازة، وكان ذلك في أول المساء، فقد رأيت أهل بيتنا في حركة عجيبة ينقلون كل شيء قابل للبلل إلى داخل الغرف، ثم دوّت أصوات الانفجارات، وكنت في ذلك الوقت قد سمعت طراطيش كلام عن هتلر ونابليون والإسكندر الأكبر وإسرائيل، فأيقنت أن كوستي تتعرض لغزو، وجلست ارتعش في برندة (أصلها فراندا وهي كلمة هندية تعني الصالة المفتوحة المطلة على الحوش أو الشارع)، واقتنعت تماما بحكاية الغزو لأن الانفجارات صارت مصحوبة بوهج يخطف الأبصار يأتي من الجهات الأربع، وبعد نحو ساعة من نزول أول قطرة ما سمعت هديرا زلزل جنبات بيتنا، وعرفت لاحقا أن المجرى الرئيسي الذي يحمل مياه الأمطار إلى النيل الأبيض، يمر على بعد نحو 40 مترا من بيتنا، وجلست أقرأ ما تيسر لي من قصار السور من «جزء عم»، وأنا في حيرة شديدة لأن بقية أفراد الأسرة كانوا في حالة تبلد كامل، يتونسون ويشربون الشاي غير مدركين أن الأمر يتعلق ب«إذا زلزلت الأرض زلزالها»، واستمر المطر حتى طلوع نهار اليوم التالي دون أن يظهر الغزاة، وشيئا فشيئا تصالحت مع الرعد والبرق في كوستي، بل صرت من عشاق المطر الكوستاوي، ثم اكتشفت روعة محافظة كردفان في السنوات اللاحقة، وصرت أحرص على تمضية الخريف في عاصمتها «الأُبيِّض»، ولو سألتني عن أكثر شيء افتقدته باغترابي في منطقة الخليج لقلت «أمطار كوستي الرعدية».
في «خرطوم» اليوم ينزل المطر لأربع ساعات مثلا، وتقرأ في صحف اليوم التالي عن انهيار مئات البيوت وعن آلاف البشر المحاصرين بالمياه في أحيائهم السكنية، وبالمقابل كانت كوستي التي زرتها وأنا صبي تشهد أمطار مدارية على مدى أسبوع كامل وتخرج فور توقفها إلى الشارع وتكتشف أن شبكة التصريف على بدائيتها (مجرد جداول محفورة بآلات يدوية)، قد قامت بسحب المياه إلى المجرى الرئيسي المركزي لمياه الأمطار لتأخذ طريقها إلى «بحر أبيض»، (بالمناسبة هناك شواهد كثيرة تؤكد أن العرب الأقدمون كانوا يسمون النهر بحرا).
وبالمقابل فإن منطقة النوبة التي أنتمي إليها لا تشهد أمطارا إلا مرة واحدة كل بضع سنوات، وبما أن هطولها المتقطع هذا يحدث ما بين شهري يوليو وأغسطس، فإن النوبيين يعتبرون المطر بلاء ويدعون الله أن يرفعه عنهم، لأنه يفتك بمحصول التمر الذي يكون قد أشرف على الاستواء، وفوق هذا كله فسقوف بيوتنا كانت بحاجة إلى بامبرز (في زمن لم يكن أهلنا يعرفون حتى كلمة «حفاضات/ حفاظات») في حال سقوط الأمطار، لأنها (أي السقوف) مصنوعة من عيدان القمح التي لا تكتفي بتمرير مياه الأمطار أولا بأول بل تختزن بعضها وتظل تنقط داخل الغرف حتى بعد توقف المطر بساعات.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]