الحمد لله عشنا طفولتنا كاملة
خلال إجازتي الصيفية في كوستي وجدت أبناء المدينة يمارسون ألعابا «غير رجولية»، فبينما كانت الألعاب عندنا في بلدتنا الريفية بدين ذات طابع خشن وعنيف إلى حد ما، كان عيال كوستي يلعبون بكرات زجاجية صغيرة ذات ألوان جذابة، رأيتها في أول يوم لي في دكان البقال فحسبتها نوعا من الحلوى، ولم أفكر في شرائها لأنها كانت في كيس كبير، وقدّرت أنها حلوى باهظة الثمن، ثم راقبت الصبية من حولي في الشارع فوجدتهم يخرجون تلك الكرات من جيوبهم ويضعون بعضا منها في مثلث يرسمونه على التراب ثم يقفون على بُعد مسافة معينة من المثلث، وهم يحملون كرات بلورية أكبر حجما عرفت ان اسمها «الضرّاب»، ويدحرجونها لإخراج الكرات المصفوفة داخل المثلث، ثم يطاردون الكرات المشتتة، ويطخونها، وكل من يطخ كرة تصبح الكرة المطخوخة من نصيبه، وهكذا قد يفقد لاعب ما كل ما يملكه من كرات زجاجية، بينما قد يعود أحدهم وقد ضاعف ما عنده من كرات، وعرفت أن اللعبة اسمها «البِلّي» marbles وبعدها تبدأ الشحتة (التسول): ممكن تديني خمسة بلالي/ بليات؟ وبكل سخاء كان الرابحون يعطون بعض ما كسبوه للخاسرين، فما لم يفعلوا ذلك سيضطر البعض إلى اعتزال اللعبة لبعض الوقت وتضيع على الجميع متعة المنافسة.. ولو دققت في قوانين اللعبة لشممت فيها رائحة القمار، مما يعني أن أنفك بايظ ومتطرف، فالقانون يقضي بأن من يضرب بلية زجاجية تصبح من نصيبه، وجميع المكاسب ليست لها قيمة مادية، وكما أسلفت فقد كان الرابحون يعيدون للخاسرين بعض البلالي ليتمكنوا من استئناف اللعب.
وانظر الى شوارع مدننا اليوم فلا أجد أي طفل يمارس لعبة طفولية، بل قد تطوف حيا بأكمله دون أن ترى أطفالا وصبية في الشارع، واللعبة الوحيدة التي يمارسها الصبية إذا أفسح الكبار لهم الفسحات التي ليست بها مبان في الأحياء هي كرة القدم، ولكن الله ابتلانا بحكومة ما أن تقع عينها على فسحة من الأرض في حي ما، حتى تعرضها للبيع، ولو كان الحي «عليه القيمة» فيتم تخصيص الفسحة لـ «غول»، وحتى الحدائق والميادين العامة التي أنشأتها الحكومات السابقة ضربت الحكومة حولها أسوارا وقامت بتأجيرها فلم يعد لحي أو مدينة رئة تتنفس بها وحتى الجزء الجميل من شاطئ النيل إما محاصر بسياج لصالح كافتيريا أو يمنع الوقوف فيه لأنه منطقة أمنية.. والنيل طوله آلاف الأميال ولكن نحو نصف ميل منه في الخرطوم يهدد الأمن الوطني.
نعم جيلنا كان محروما من فيسبوك وواتساب والبلاي ستيشن، ولكنه كان يملك طفولته ويمارسها بكل حرية.. كنا في الإجازات ونحن صبية نغادر بيوتنا مع شروق الشمس ونعود إليها لتناول وجبة ثم نخرج ونلعب أحيانا على بعد عدة كيلومترات من بيوتنا، ولكن كان «الدار أمان»، وكل كبير يمر بنا إما عم أو خال، حتى لو لم تكن تربطنا به صلة دم أو رحم.. أما إذا كنا نلعب ومر بنا أحد مدرسينا فقد كنا نصاب بتصلب المفاصل ونقف ثابتين بلا حراك، ولو كان هناك من يجلس لأنه لم يجد فرصة اللعب فإنه أيضا يهب واقفا إذا رأى المدرس حتى لو كان ذلك الجالس لم يدخل مدرسة قط.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]