وشفت الكورة لأول مرة
مازلت في كوستي التي كانت يوما عروس مدن السودان بنشاطها التجاري لأنها تربط السودان الأوسط بالشمال والجنوب بالسكك الحديدية والبواخر النيلية، وكان العمل في النقل النهري محتكرا تماما من قِبل أهلي النوبيين، ورغم أن الكثير من «أفندية»/ موظفي النقل النهري لم يكونوا نوبيين فإنهم احترموا التقاليد المتوارثة بأن تكون جميع طواقم البواخر نوبية، ربما لأن النوبيين كانوا أول من صنع المراكب الشراعية الضخمة وكانت لهم خبرة في استخدامها لنقل البضائع والمسافرين لمسافات بعيدة عبر شلالات عنيفة، وبالتالي أوكل إليهم الإنجليز أمر البواخر النيلية، وبالتالي كان أي شخص غير ناطق بالنوبية سيصبح أطرش في الزفة إذا عمل في باخرة إلمام كل طواقمها باللغة العربية مثل إلمام شعبولا بفنون الغناء، فكان كبير البحارة مثلا يعطي الأمر بإدارة الدفة/ السكان نحو اليمين بقوله: «إيون إيكن» ولليسار «كوندو ليكن»، وكانت هناك مصطلحات مستخدمة في تسيير البواخر ظللت لسنوات طويلة لا أعرف لها أصلا ولا فصلا، فقد كانوا يقولون: البابور (الباخرة) واقفة تيرنستان أو تيرناهد، وبعد التخرج في الجامعة وبعد التحري والتقصي اكتشفت ان الكلمتين تحوير لمفردتين إنجليزيتين تحددان طريقة توجيه الباخرة: تيرن ستاند/ تيرن أهيد Turn stand/turn ahead.
وكنت أمرّ في طريقي من بيتنا إلى مطعم والدي بمبنى ضخم المساحة ومرتفع الجدران وقيل لي إنه «دار الرياضة»، وكانت في كل مدينة كبرى في السودان مثل تلك الدار، ثم صار لها اسم دلع هو «ستاد»، بعد أن أصبحت فرقنا عاجزة عن اللعب، فقالوا أحسن ندلع المباني، وجاءتني فرصة العمر لأعزز رصيد إنجازاتي الحضارية قبل العودة إلى بلدتي الريفية بدين، عندما عرض علي شقيقي عابدين دخول دار الرياضة لمشاهدة مباراة بين نادي الرابطة وناد آخر، وكان هو من مشجعي «الرابطة» لأنه نادي حيّنا، ودخلت الملعب وشفت العجب: نجيل أخضر به خطوط بيضاء مستقيمة هنا وهناك، وخلق يجلسون على مساطب، وباعة تسالي (يسمونه في الخليج «حب» وهي تسمية لا غبار عليها، ولكن السعوديين يسمونه «فصفص» ومجرد النطق بالاسم يجعل جسمي يقشعر كما كلمة القرنبيط والفيشاويبيط)، وبدأت المباراة وتحول نصف المشجعين إلى مدربين يوجهون هذا اللاعب أو ذاك: مرر الكورة للجناح الأيمن.. غطي الفروِد قبل ما يخش خط 18، ثم يوجهون كلامهم إلى الحكم: فاول يا غبي… هندس يا ريس.. أوفسايد يا عميان.. دا مش كورنل يا حيوان! وعرفت بعد سنوات أن الفرود (بكسر الفاء والواو) هو الفوروورد (المهاجم المتقدم)، والهندس هي لمس الكرة بالأيدي (هاندس)، والأوفسايد هو المتسلل خلف المدافعين، والكورنل هو الكورنر أي الضربة الركنية.
وظللت أتابع المباراة و«خشمي عندي»، أي لا أنطق بكلمة لجهلي بمصطلحات الكرة، وإن كنت في قرارة نفسي قد قررت أن أصبح من مشجعي نادي الرابطة، فلم نكن في بلدتنا بدين نعرف كرة القدم، وإن كنا قد سبقنا الأوروبيون في اختراع لعبة الهوكي، وكنا نأتي بنواة الدوم ويحمل كل لاعب عصا غليظة تنتهي بثنية تسمح له بخطف الكرة وتمريرها وتوجيهها نحو مرمى الخصم، وأدخل كرة القدم في بدين مدرس نوبي اسمه «سري» تولى تدريبنا كتلاميذ على أصول وقواعد اللعبة، وأعجب بها الكبار واشتروا كرة مستعملة مليئة بالرقع، وكان كل فريق لا يفارق نصف الملعب الخاص به، ولا يفارق لاعب النقطة التي حددوها له وتأتيه الكرة فيركلها ومطرح ما يسري تجري.. وهكذا كانت المباريات خالية من الأهداف ما لم تدخل كرة ما المرمى مصادفة لعدم وجود حارس مرمى لأن الجميع كانوا يرفضون حراسة المرمى من منطلق أنها «شغلانة» لا تليق بشخص محترم.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]