جعفر عباس

ما أحلى الرجوع إليها

[JUSTIFY]
ما أحلى الرجوع إليها

من البدهي أن ينبهر قروي بالمدينة وما فيها من كهرباء وماء في الحنفيات وأطعمة ذات أسماء تفتح الشهية، وكان أبي قد سمح لي بالسفر من بلدتنا بدين إلى مقر عمله في مدينة كوستي حيث قضيت ثلاثة أشهر، ثم حان موعد العودة إلى الجذور بانتهاء العطلة الصيفية، ولم أكن حزينا لذلك، فقد أخذت كفايتي من طيبات المدينة وصارت عندي ذخيرة ضخمة للفشخرة والاستعراض على زملائي في المدرسة، بل لم أفرح كثيرا بركوب القطار في رحلة العودة (يعني خلاص متعودة.. دايماً)، ومع تحرك القطار أحسست بحنين جارف إلى بدين وأهلي في بدين، فرغم كل المبهجات في المدينة إلا أن هناك أمورا شهدتها وسمعتها ضايقتني خلال وجودي فيها، فقد رأيت العديد من السكارى يتمايلون في الشوارع وهم يبرطمون أو يتلفظون بعبارات نابية، وسمعت الناس يتكلمون كثيرا عن الحرامية الذين يتسورون البيوت بقصد السرقة، وفي كل مساء كنت أسمع أهل بيتنا يتساءلون ما إذا كانت النوافذ والأبواب محكمة الإغلاق، وبالمقابل لم يحدث أن رأيت شخصا سكرانا في بلدتي بدين. بالتأكيد كان هناك من يتعاطون الخمر ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بعيدا عن الأعين، أما الحرامية فلم تكن معروفة كمفردة في قاموس أهلي في بدين، وبالتأكيد كانت هناك سرقات وقد اعترفت من قبل أنني شاركت فيها، ولكنها كانت سرقات «شيطنة الصبا»: نقتحم مزرعة بطيخ على شاطئ النيل لسرقة بطيخة ولو طلعت ناصعة البياض وبطعم البطاطس النيئة نعاود الكرّة حتى نعثر على بطيخة حلوة، وكنا نسطو على مزارع الذرة الشامية ونسرق بضعة قناديل ونشعل النار في أرض خلاء ونشويها، أما اللصوصية بمعنى التعدي على ممتلكات ثمينة بغرض الكسب المادي غدرا وغيلة فلم تكن معروفة عندنا على الإطلاق، بدليل أن أبواب بيوتنا كانت تظل مفتوحة ليل نهار، وكنا أحيانا نتركها مواربة لمنع أغنام وتيوس الجيران من التحرش بأغنامنا أو التعدي على علفها.
أتذكّر الآن مدرستي (بدين الأولية/ الابتدائية)، وكيف كانت مع بداية كل عام دراسي تبدو كعروس ظل أهلها يلمعونها ويسنفرونها (الصحيح سنفرة وليس صنفرة) فتبدو زاهية البياض، لأنه كان يتم طلاء مباني المدرسة خلال كل عطلة صيفية، ويبدو أن أخلاقي باظت خلال وجودي في كوستي، فبعد أن كنت مثل أهل بلدتي أعتبر كل رجل يرتدي الشورت أو البنطلون ناقص الرجولة، صار مشهد الآلاف وهم يرتدونها في المدينة مألوفا واشترى لي والدي شورتين، وفي اليوم الأول للدراسة بعد الإجازة الصيفية ارتديت الشورت، وكانت مخالفة الزي المدرسي جريمة عقوبتها ضربات على الأرداف تحرمك من لذة الجلوس أو النوم على ظهرك لأسبوع كامل، ووقفت في الطابور وجميع زملائي في المدرسة يشيرون إليّ، وأنا أحس بأنني «أفندي متحضر» وفجأة سمعت ناظر المدرسة يناديني فخرجت من الطابور وأوقفني بالقرب منه ثم صاح: طابور صفا.. انتباه.. تصفيق للمفتش جعفر عباس باشا.. وانفجرت الحناجر بالضحك، وأمسك بي مدرس من أذني وجرني بعنف إلى وسط الطابور ونادى أربعة كنا نسميهم الزبانية لأنهم كانوا عتاة ضخام الجثة، ومنهم من تزوج وهو في السنة الرابعة الابتدائية وأمسك اثنان منهم بيدي والآخران برجلي وصرت معلقا في الهواء وظهري إلى أعلى وانهال المدرس علي بعصا الخيزران وأنا «أعيط».. أعيط إيه.. أولول.. ثم صاح المدرس سيبوه.. فسابوني ووقعت ارضا على وجهي، وصار المفتش كتلة من الطين الناجم عن اختلاط الدموع بالتراب، وصدرت لي الأوامر بالعودة فورا الى البيت والرجوع الى المدرسة بالزي الرسمي خلال ربع ساعة.. وكان بيتنا على مسيرة نصف ساعة من المدرسة، فخرجت أبكي لا أعرف ماذا أفعل، ولكن فاعل خير علم بحكايتي وأردفني على حماره فعدت الى البيت وارتديت العمامة والجلباب وعدت الى المدرسة وأنا «زي السمسمة»، وكانت تلك بداية كراهيتي للخواجات والاستعمار.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]